مقالات هتعجبك

العراق غزا الكويت وقطر حولت القبلة

أوشكت قطر أن تنجح في خطة طموحة لاحت لها بعد غزو الكويت. لكن الدراما راوغت الخيال. لولا ذلك لكانت القبلة الآن حيث أرادت الدوحة. اقرأ القصة كما لم تقرأها من قبل

المشهد الأول

أين الإخوان المسلمون من غزو الكويت

لم يؤثر في جيلنا يوم واحد كما تأثر بغزو العراق للكويت ١٩٩٠، في ٢ أغسطس. كنت وقتها في عامي الجامعي الأول، ولم تكن لدينا قنوات فضائية تنقل الأحداث لحظة بلحظة، كما صار الحال الآن، بل كما صار الحال على نهاية الأزمة. كان الرأي العام يخاطب بوسائل أخرى. أتذكر حتى الآن كلمات عبد الرحمن الأبنودي، وغناء عبد الله الرويشد: ”أنا في وادي يا ربي وولادي في وادي. يا أمة الإسلام، خلص مني الكلام، بيتي وبيقول بيته، اللي جاي يعتدي، ومسجد لله بنيته، وبيقول دا مسجدي.“ ومعها وجوه فتيات كويتيات قريبات من سني، تتجول الكاميرا عليها، من وجه إلى وجه، وتثبت على الأعين الباكية. هل يمكن لإنسان ألا يضع نفسه مكان الكويتيين، وقد استيقظوا يوما ليجدوا ديارا كانت ”قريبا“ ديارا، صارت الآن قفارا. حيث اضطروا إلى النجاة بحياتهم سريعا إلى دول أخرى، وديار أخرى، مهما كانت الضيافة فيها كريمة، فهي ليست ديارهم.

فما بالك والأمر لم يكن كرم ضيافة على طول الخط.

جريدة مصرية كان رئيس تحريرها محسوبا على ”القوميين العربية“ نشرت كاريكاتيرا يسخر من الكويتين، متلاعبا بكلمات الأغنية المذكورة، مصورا عبد الله الرويشد مغنيا: ”أنا في ويمبي يا ربي، وولادي في كنتاكي“. في ذلك الوقت كان ويمبي وكنتاكي إشارة إلى الثراء.

لقد أصاب الحدثُ السياسي اليسارَ القومي بلوثة تتعدى خلل الميزان السياسي، إلى خلل الميزان الإنساني. وهذا أكثر المؤشرات دلالة على عمق اختلال التوازن. اختلال عبر عنه كثيرون بأنه كان طعنة إلى الفكرة السياسية للعروبيين أقوى من طعنة نكسة ١٩٦٧، وحرب لبنان الأهلية. على ما في الاثنين من مآس. لقد كان العراق آخر أساطيرهم.

في بداية الغزو ارتبك الإخوان كغيرهم.  وتناقضوا ظاهريا. مرشد مصر أصدر بيانا يطالب فيه بعودة الشرعية، وحسن الترابي ونجم الدين أربكان والغنوشي زاروا صدام وأصدروا بيانا يدعمه. فأين كان موقف الإخوان الحقيقي. هذا أم ذاك؟

في أروقة السياسة كان لهم ”خيارات“ فعلية سعوا إليها. وهي ”الوساطة“. مشروع الوساطة الذي قدموه موثق على لسان مندوب لهم سعى فيه، هو الملياردير الإخوانجي المصري الأصل يوسف ندا، الذي التقى به المذيع أحمد منصور في قناة الجزيرة وسأله عن تفاصيله، وهذا نص ما جاء في حواره حول هذه النقطة:

screenshot 17.png

وقد تحدث الأمير نايف بن عبد العزيز، في حوار مع جريدة السياسة الكويتية، عن تفاصيل عاصرها بنفسه، في لقائه مع قيادات الإخوان المسلمين، راشد الغنوشي وحسن الترابي والشيخ الزنداني والسياسي التركي نجم الدين أربكان.

screenshot.png

مواقف الإخوان لم تكن إذن متناقضة كما ظن الجمهور من أمثالنا ونحن نتابع الأحداث وقتها. بل كانت استراتيجية متكاملة. في العلن اعتمد الإخوان على موقف سياسي أسميه ”الحياد المعطل“. وأعني بهذا إلقاء اللوم على جميع الأطراف، على الجاني والمجني عليه. ثم اتخاذ هذا أساسا لمعارضة أي إجراء يهدف إلى تغيير المعادلة. لا للحرب بين المسلمين. لا للجيوش الأجنبية. بحيث تكون حصيلة المواقف، لو استجابت لهم السياسة. أن يبقى الوضع على ما هو عليه. وتتوه القضية في متاهات السياسة.

لاحظوا في المشروع الإسلامي الذي تحدث عنه يوسف ندا أنه يصل في الأخير، بعد رفض الإجراءات السابق ذكرها، إلى تثبيت ”مكاسب“ للغزو، بإزاحة الحكومة الكويتية ثم إجراء انتخابات تحت إشراف جيوش ”إسلامية“ صديقة، تستبعد منها جيوش المنطقة، وتنضم إليها ما يوافق عليه صدام حسين. حتى باكستان مستبعدة من من هذا. لتؤول الجيوش في المحصلة النهائية إلى دول إسلامية في جنوب شرق آسيا. وهي المنطقة ذاتها التي لا تزال جهودهم متواصلة فيها حتى الآن، جماعة بعد جماعة، لتكون مركزا للعسكرة الإسلامية. وهو أمر ترصده المخابرات الغربية ونشرت عنه صحيفة الفاينانشال تايمز تقريرا في يونيو ٢٠١٧ أنقل هنا ترجمة بي بي سي له:

screenshot.pngscreenshot.png

لكن عاصفة الصحراء حدثت. ونقلتها شبكة إعلامية جديدة اسمها CNN. وكانت تلك أول مرة ينقل الإعلام حربا نقلا مباشرا.  حين ترى الحدث رأي العين، تتخيل نفسك وصلت إلى عين اليقين. وهذا ما حدث في الرأي العام العالمي في أول حرب منقولة على الهواء مباشرة. حقيقة ستلتفت إليها دول أخرى. يعنينا منها في المنطقة العربية قطر. وهي بطلة المشهد الثاني.

المشهد الثاني

داخل أروقة مجلس التعاون الخليجي

عقد قادة الخليج قبل تحرير الكويت قمة لمناقشة الغزو العراقي. ما حدث هناك يرويه سعود القحطاني المستشار في الديوان الملكي السعودي، ونقلته جريدة الحياة:

screenshot.png

كان الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وقت انعقاد المؤتمر، وزيرا للدفاع في قطر، قبل أن يزيح والده عن الحكم عام ١٩٩٥. وقد عاصر توترات بين قطر وجيرانها لم تكن قطر لتحسمها بالوزن السياسي ولا العسكري. لكنها رأت في قناة سي إن إن وتأثيرها فكرة مناسبة للغاية. أثبتت أن الإعلام في حد ذاته قوة سياسية كبرى. ولا سيما أن المنطقة العربية لم تبادر إلى هذه القوة بصورتها الحديثة بعد، ولا تزال تعتمد على الإعلام التقليدي. بالنسبة لدولة صغيرة كقطر لن يكون عندها ما تخسره لو دشنت قناة إعلامية تضمن بها توصيل وجهة نظرها عن الأحداث في الدول الكبرى. وتضمن بها التأثير في الجمهور العربي الذي لا يخفى على أحد أنه لا يصدق الإعلام الرسمي في بلاده. وتسد بها فراغا سقط بتراجع ”الجمهوريات“ التي احتكرت الإعلام والتأثير الإعلامي من قبل.

 

لكن الأهم أنها تستطيع أيضا أن تسد فراغا ”أيديولوجيا“ حدث بتراجع هذه الجمهوريات.

لاحظوا أن ذلك العام – ١٩٩٠ – لم يكن عام التيه للقوميين العرب فقط، بل سقطت الشيوعية أيضا قبلها بعام واحد، بانهيار الاتحاد السوفييتي. مع ما واكبه من انتصار لـ ”المجاهدين الأفعان“ الرافعين لراية الجهاد الإسلامي في حربهم ضد الاتحاد السوفييتي.

فقدت طبقة المتعلمين في العالم العربي كل أسلحتها الأيديولوجية دفعة واحدة. ولم يكن صاعدا سوى أيديولوجية سياسية واحدة لم تجرب حظها في السلطة المنفردة، وإن حظيت على الدوام بالسلطة الاجتماعية الأكبر، نتيجة انتشارها في صفوف الريفيين ومن وفد منهم حديثا إلى الحضر، طالبا أو مقيما. وهي ليست شريحة هينة. بل هي شريحة النقمة والنشاط السياسي بعيدا عن سطوة الأهل. المقصود طبعا أيديولوجية الإسلام السياسي.

والعلاقة بين الإسلام السياسي وقطر علاقة خاصة جدا، لا مثيل لها في أي دولة أخرى، وبالتأكيد لا مثيل لها في دولة تمتلك ثروة بحجم ثروة قطر، وطموحا بحجم طموح قطر. ولديها طائفتان بالذات يعيشان في الشتات، الإخوان المسلمون “القطريون”، والفلسطينيون الذين أفقدتهم مواقفهم في غزو الكويت قدرا لا بأس به من الثروة والدعم، من طرفي الصراع.

المشهد الثالث

مهجر المستضعفين 

في صحيفة العرب القطرية، التي يرأسها عبد الله العذبة، الإعلامي القطري الأكثر ارتباطا بالسلطة، يتساءل عبد العزيز آل محمود: من هم الإخوان المسلمون في قطر؟“ 

ويقر في المقال المنشور عام ٢٠١٢ أن التساؤل يشغل العالم، وأن صحفيين أجانب أجروا تحقيقات صحفية حول أشخاص العاملين في الجزيرة. هذا التساؤل لا يشغلنا نحن فقط. ويمضي المقال في شرح خطوات التوافد الإخواني على قطر منذ الستينيات. تحدثت عن ذلك في مجموعة مقالات سابقة عن ”تشريح عقل الإخوان“. فلن أكرره. لكنني سأذهب مباشرة إلى ما يخصنا. كيف أثر هذا الوجود على المجتمع القطري، وإلى أي حد. وهذه إجابة الكاتب القطري في الصحيفة القطرية. يبدأها من الأساليب الدعوية المتبعة. ليصل إلى التأثير الاجتماعي فالسياسي.

screenshot.png

انتشر الفكر الإخواني حسب الصحيفة الرسمية إلى ”غالبية أهل قطر” بفضل النخبة الإخوانية، وبسبب دور وزارة الأوقاف القطرية. من الملفت للنظر أن وزارة الأوقاف القطرية هي صاحبة موقع الفتاوى الشهير إسلام ويب، الذي أصدر على مدار السنين الماضية بعضا من أشد الفتاوى تشددا. وأن وزير الأوقاف القطري من ١٩٩٢ إلى ١٩٩٦ كان عبد الله بن خالد بن حمد. وهي نفس الفترة التي قضاها خالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات برج التجارة العالمي، في قطر، مقيما في شقة في بناية مملوكة لوزير الأوقاف. وأن وزير الأوقاف نفسه صار لاحقا وزيرا للداخلية.

هذا مستوى رسمي من الدولة. لكنه ليس المستوى الوحيد.

توغل الإخوان في بنية الدولة القطرية يذهب إلى أكثر من ذلك كثيرا. سأستعين هنا بالمقال الثاني لقيادي إخواني هو عبد الله النفيسي، بعنوان الحالة الإسلامية في قطر.  حيث يبدأ الاقتباس بسرد أسماء كبار الإخوان الذين انتقلوا إلى قطر في الستينيات

screenshot.pngscreenshot.png

 وهو يؤكد على ما ذهب إليه مقال الجريدة القطرية من سيطرة الإخوان المسلمين على مناهج التربية والتعليم، لكنه يلفت النظر إلى معلومة هامة، أن التيار الناشئ هناك كان متأثرا بكتابات سيد قطب. هذا الكاتب الإخواني المصري الذي شدد على فكرة جاهلية المجتمع. لن نزيد عن هذا في الإشارة إلى تشرب المجتمع القطري بالفكري السياسي الإسلامي الإخواني القطبي. لأننا نريد أن نعود إلى ما حدث بعد غزو العراق. كما مهدت له في المشهد السابق، لنوجزه.

صار لدينا فراغ أيديولوجي بسقوط الاتحاد السوفييتي، والقومية العربية. صارت لدينا راية واحدة نسب إليها الانتصار على القوة العظمى الثانية في العالم، راية “الجهاد”، ونفس الراية الآن مرفوعة في البلقان. صار لدينا شباب بلا أيديولوجية ينشغلون بها إنه أحبوا أن يمارسوا السياسة. ولدينا إخوان مسلمون مسيطرون في قطر، الثرية، الطامحة، والناقمة أيضا.

سنة ١٩٩١ أصدر الإخوان القطريون دراسة مكونة من جزئين، الأول منها يحمل عنوان ”فكر البنا“، أما الثاني، فيحمل عنوان ”منظمة الإخوان“. من الملفت للنظر أن الجزء الأول نشر للعامة. بينما لم ينشر الجزء الثاني، رغم أنه كان السبب في التوصل إلى قرار مهم جدا، لم يفهم معظم المتابعين دلالته، بل انشغلوا بمتابعته كحدث. هذا المقطع أيضا من مقال القيادي الإخواني عبد الله النفيسي.

screenshot.png

ما هذه الدراسة التي تجعل الإخوان في قطر، دونا عن إخوان العالم كله، يعلنون أن لا حاجة للتنظيم؟ هكذا! بهذه البساطة يقبل الإخوان ما لا يقبلونه بالقمع ولا بالإغراء؟ هكذا! يتخلى القطبيون – على حد وصف القيادي عبد الله النفيسي – عن حلمهم وعن موقفهم من المجتمع من حولهم؟

أبدا. لقد اعتقد هؤلاء أنهم يعيشون الآن، أخيرا، في ظل “تمكين”، وتحت راية إمام. دولة قطر بالنسبة لهم في ذلك الحين وصلت إلى شكل المجتمع الذي يريدونه. قرار سنة ١٩٩٩ يأتي بعد أربع سنوات من صعود الأمير حمد بن خليفة إلى الحكم، وبعد ثلاث سنوات من إطلاق الجزيرة، وإسلام أونلاين، وهو مشروع ضخم آخر موجه لفئة أخرى من الجمهور ومرتبط مباشرة بمكتب القرضاوي. تعجبُ بعضنا من هكذا قرار، أو من اعتبار قطر دار تمكين، وأمير قطر أميرا ممكنا، نابع من الصورة الخيالية التي لدى العامة عن خليفة المسلمين. نابع من اعتقاد العامة أن خليفة المسلمين منذ العصر الأموي كان يختلف كثيرا في مستوى “تدينه” عن الحكام الحاليين. الإخوان نشروا هذه الخرافة لحاجة في نفس يعقوب. والآن – في قطر – انتفت هذه الحاجة. وبالنسبة لهم هذا هو الأمير. وهذه هي الإمارة الناشئة. إمارة إخوانية وليست إمارة سلفية كأفغانستان.

لكن قرار حل التنظيم نفسه لم يرض الإخوان في غير قطر. واعترضت عليه القيادة في مصر. حسب ما رصد الكاتب القطري

screenshot.png

وواضح أن الدكتور النفيسي أيد الفكرة، وأنه حنق على القيادة الإخوانية المصرية بسبب رفضها لها

screenshot.png

مقولة عصام العريان إن ”الحالة القطرية لم تصل بعد إلى النضج الكافي“ مقصود بها حالة التمكين. وهذه هي الحالة الوحيدة بالنسبة للإخوان التي تبرر انتهاء المهمة. يريد أن يقول إن التمكين في قطر لم يصل بعد إلى النضج الكافي.

هذا الخلاف بين رؤية إخوان قطر لشكل التمكين، وبين رؤية إخوان مصر، سيظهر بصورة أوضح في المشهد الرابع. وسيظهر أن إخوان قطر حين وصفوا إخوان مصر بأنهم “عامل تعطيل” لم يكونوا بعيدين عن الصواب. لقد تسببوا في “انهيار الحلم”. لقد كانوا فيلاً في طريقه إلى هدم كعبة الدوحة، دون أن يعلم.

المشهد الرابع

قبلة المثقفين

تضر الدول العربية نفسها ضررا بينا حين تعتقد أن الفكر مجرد ترف. كل تغير اجتماعي في العالم لا بد له من تغير فكري مواكب. وما من منطقة في العالم تشهد تغيرات اجتماعية سكانية بحجم ما تشهد المنطقة العربية. أعداد هائلة تنتقل من الأمية إلى التعليم. تزايد سكاني رهيب. ثروات ضخمة في جزء كبير من المنطقة تجعل ملايين فيها يطلعون على أنماط عيش ”صادمة“ بالنسبة لما يرونه في مجتمعاتهم. صراعات طائفية. تغير في وضع المرأة، نصف المجتمع.

هذه حزمة منتقاة. وناسفة.

في أماكن أخرى من العالم هناك ظاهرة أو اثنتين من تلك. أما هذا التجمع الشامل الكامل، ففي المنطقة العربية وحدها تقريبا. في نفس الوقت تسقط ”الأفكار“، ونكتفي بالتهليل لسقوطها، أو الشماتة فيها، أو احتقار فعل الفكر نفسه بسبب ذلك الفشل! تخيلوا. نعتقد أن الأفكار القديمة ستسقط وتذهب في الفراغ، وأن كل هؤلاء الشباب من المتعلمين الجدد لن يبحثوا عن إجابات جديدة.

هنا وفرت قطر لقطاع كبير من الشيوعيين السابقين، والقوميين العرب السابقين والحاليين، مكانا تحت ظل الإسلام السياسي. الذي ادعى أنه انتصر في أفغانستان بتأييد الله، والذي بدأ قتالا آخر في البلقان، والذي يزاحم الثوار القدامى على لواء القضية الفلسطينية، ولا سيما بعد أوسلو.

في ظل سقوط العراق كمصدر ثروة مالية للمثقفين والإعلاميين، وانغلاق مراكز الثروة الأخرى في الإمارات والسعودية عن تبني الأفكار السياسية الجديدة، كانت قطر مهوى العقول الجديدة.

ورثت الدوحة موقع بغداد آخر العواصم الباقية في حوزة من ينسبون أنفسهم إلى التقدمية. ولأن تلك الفترة كانت فترة صعود العولمة والمنظمات غير الحكومية، فقد تمددت شبكة قطر الإخوان إلى كل مفاصل النشاط السياسي المتاحة عبر العالم. صارت قطر، فعلا، قبلة النشطاء والمثقفين والإعلاميين والشباب. في الأفكار، وفي الثروة، وفي الشهرة، وفي الفرصة. وراء كل موقع إنترنت جديد لا يعتمد على الأسماء القديمة توجد قطر. تبنت النشطاء وقضاياهم، مولت لهم دور نشر، ومنظمات غير حكومية. صار الخليج مركز المنطقة العربية الفكري، وصارت الدوحة مركز ما يبدو جديدا منه. وجد الموهوب لديها مساحة، ووجد الانتهازي لديها مساحة، ووجد العقائدي لديها مساحة.

لكن إلى أي حد كان هذا جديدا وأصيلا؟ إلى أي حد اختلفت دوحة حمد عن بغداد صدام؟  لن تنكشف الإجابة إلا حين يوضع النموذج الجديد في اختبار حقيقي. أين؟ في المحروسة. بالتحديد بعد ٢٥ يناير ٢٠١١.

كان عبد المنعم أبو الفتوح تجسيدا للنموذج القطري. كوّن مظلة جامعة لنشطاء وناشطات وكتاب وإعلاميين، بعضهم من أبرز مواهب جيلهم، كبلال فضل ووائل غنيم، وبعضهم لم يعرف عنهم الانتساب إلى تيارات الإسلام السياسي. صورة جذابة تجعل الناظر إليهم يحتار في توصيفهم. (مشهد تكرر بنجوم آخرين مثل توكل كرمان في اليمن وراشد الغنوشي في تونس)

وفي المقابل كان نموذج التمكين الإخواني السلفي الريفي. محمد مرسي محاطا بعاصم عبد الماجد ومحمد عبد المقصود ومدعوما من المتشددين المستعدين للتدخل بالقوة لفض اعتصام مواطنين مثلهم، في سلوك ميليشياوي إرهابي مخيف.

ثم لعبت الدراما لعبتها، كعادة الدراما، عندما انعقدت العقدة.

المشهد الرئيسي – الماستر سين – هنا مشهد الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وقد خرج أبو الفتوح من الجولة الأولى وصارت المنافسة محصورة بين محمد مرسي والفريق أحمد شفيق. وجدنا أن رجال تحالف أبو الفتوح الأشهر، هؤلاء الذين قدموا وجها حسبه الناس مختلفا، يقفون حول، أو يبعثون تأييدهم إلى، محمد مرسي. ليس هذا فحسب. بل يقود مؤيدو التيار حملة تشويه واغتيال سمعة على من عارضوا مرسي. علمنا أنهم عند الاختيار المفرقي يقفون في صف محمد مرسي، ومحمد عبد المقصود، وصفوت عبد الغني، وعاصم عبد الماجد. لا يمانعون في ذلك. ويجدون أن هؤلاء أقرب إليهم من مصريين لم يقترفوا جرما إرهابيا. علمنا أن ”البعث“ الجديد، تحت شعار الإسلام، لا يختلف كثيرا عن البعث القديم تحت شعار العروبة. متسامح هو أيضا مع الإرهاب متفهم له. هذا سلوك مقلق حال وصوله إلى السلطة. والآن نرى أن نجوم الإرهاب هؤلاء يعيشون في الدوحة أو على نفقتها، كما فعل صدام حسين في السابق مع تجار البندقية الثورية في زمنه.

البعث القديم سقط يوم غزو الكويت. والبعث الجديد في الدوحة بدأ رحلة السقوط. بتقبله الإرهاب، وتبريره، والتماس الأعذار، وتقديم الغطاء الفكري له. الفيل يتجول على الأرض ولا يراه من ينظرون إلى الشعارات المرفوعة.

لكن شباب هذه المنطقة سيبحث الآن عن قبلة جديدة. إسقاط الشبكة القديمة لن يكفي وحده. الطاقة لا تفنى. فمن سيقدر على تقديمها بعد أن تنهار شبكة الدوحة كما انهارت سابقاتها؟!!!

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading