مقالات هتعجبك

لأي أصنامنا السياسية الاقتصادية يدين السيسي؟ وأين سيضعه كتاب التاريخ؟

رحلة موجزة داخل غرفة حكم #السيسي وعقله.. علها تكشف لنا حيرتنا من سياسته الاقتصادية

١

ربما تذكر كتب التاريخ السيسي كواحد من أعظم السياسيين الذين مروا على مصر. وربما تلعنه. وفي الحالتين لن تعجز عن تقديم أسباب لذلك. لدى السيسي كمثله من حكام مصر محبون ولهانون. وله، أكثر من غيره، ساخطون كارهون.

أولهم الإخوان طبعا، هؤلاء يكرهون كل حاكم لمصر منذ نشأتهم بعد أربع سنوات من سقوط الاحتلال العثماني، وسعيهم لإعادته تحت مسمى الخلافة الإسلامية. لذلك سنحيدهم جانبا. إذ من الصعب تخيل ما الذي يمكن أن يفعله أي حاكم مصري لكي يتوقفوا عن الدعاية إلى إسقاط نظامه. من أول النحاس باشا إلى المشير السيسي.

بعد أن حيدنا هؤلاء، نستطيع أن ننظر في خريطة محبي السيسي وكارهيه من المواطنين المصريين. سنكتشف – وهو في هذا يختلف عن غيره – أن مساحة الاختلاف حوله لا تزال كبيرة. والأغرب من ذلك أنها رأسية. أي موجودة في كل شريحة اجتماعية وسياسية في البلد. من أول الغلبان، إلى الطبقة المتوسطة، من التيارات السياسية التي هدفها امتلاك سلطة توزيع الثروة، إلى التيارات السياسية التي هدفها امتلاك المواطنين للثروة.

كل هذه الشرائح تحوي معارضين له. في عهده ارتفعت الأسعار ارتفاعا ضخما، مَس هذا الغلبان وأسرته كثيفة العدد في حياتهم اليومية، وجعل الطبقة الوسطى الدنيا عاجزة عن ممارسة أبجديات حياتها، أما الطبقة الوسطى العليا ففقدت نصف مدخراتها على الأقل ولو لم تنفق منها مليما. ومن يعمل منها في مجال البزنس يعيش في جو استثماري خانق، بمزاحمة من المؤسسة العسكرية تعيد الوضع إلى أيام ما قبل الألفين. بعض من هؤلاء ينطلق في انتقاده للسيسي من تحميله مسؤولية الانقلاب على مبارك في ٢٥ يناير ٢٠١١. وبعض آخر ينتقد السيسي لأنه قاد ٣٠ يونيو منقلبا على ٢٥ يناير.

نفس هذه الطبقات تحوي مؤيدين له. من أول الغلبان، إلى التيار السياسي رافع شعار الغلبان. المؤيدون هؤلاء يَرَوْن أن السيسي حريص على تشغيل الجيش لمصلحة الغلبان. وأنه، وإن تضرر الجميع، فقد حرص على تحميل الطبقة الوسطى فما فوقها العبء الأكبر.

في صفوف طبقة المتعلمين له مؤيدون يَرَوْن أن ما حدث نتيجة طبيعية لسنوات الفوضى التي أعقبت ٢٠١١. وحتى الطبقة الوسطى العليا التي تضررت جدا في عهده كما أشرت أعلاه لا يعدم فيها مؤيدين له، يَرَوْن أنه اتخذ من القرارات الاقتصادية المؤجلة ما جبن غيره على اتخاذه. كرفع الدعم. وأن هذه قرارات لو أصر الحكم عليها قبل ٤٠ سنة لكان وضع الاقتصاد الآن في مكان أفضل كثيرا.

ولا ينجو السيسي أيضا من التجاذب والتراشق في صفوف المهتمين بالصراع العالماني الديني. له مؤيدون بين العالمانيين يَرَوْن أنه يفعل ما في وسعه في ظل مجتمع يهيمن عليه الدين السياسي، اجتماعيا، ومؤسساتيا. وأن توقع تغيير هذا بعصا سحرية لا ينتمي إلى السياسة.

وله معارضون في نفس الشريحة، يَرَوْن أنه يطلق شعارات ثم ينسحب ليدفع “المجددون” الثمن. يستدلون على ذلك بحبس الشيخ محمد عبد الله نصر، والباحث إسلام البحيري. وأنه هو نفسه متدين تقليدي، زوجته ترتدي الحجاب ولا تظهر في الحيّز العام، على خلاف كل زوجات الزعماء المصريين السابقين، اللاتي اهتممن بقضايا المرأة وتحسين وضعها في المجتمع.

لكن هذا السبب نفسه هو الذي يجعل له مؤيدين في صفوف المتدينين المصريين من غير الإسلام السياسي، فهو يشبههم، وزوجته تشبه زوجاتهم، والطريقة التي يعبر بها عن تدينه تشبه طريقتهم. وهم يريدون شخصا يحافظ على الإسلام ولكن يحارب التطرّف، من باب حب الإسلام لا من باب التطاول عليه.

وبين صفوف نفس الشريحة المتدينة من يرى أن السيسي سمح بالتطاول على ثوابت إسلامية، وأنه أصدر عفوا ولو رمزيا عن إسلام البحيري الذي ينتقد التراث الإسلامي انتقادا لاذعا، وأنه أخفض صوت ميكروفونات المساجد.

ما هذا الرئيس؟

مسيح مخلص كما وصفته صحيفة أم راية انهزام مصر كما يقول آخرون؟

عنوان في تاريخ هذا البلد أم خطأ مطبعي عابر؟

٢

أنا أيضا، كغيري من المصريين، أحتار فيه حيرة شديدة.

السادات كان شجاعا في قراراته، استلم مصر ممددة في رمل سيناء كحية معمرة جريحة، واتخذ قرار الحرب وأنجز واسترد الأرض. لكنه لم يستطع تنفيذ إجراءات إصلاح اقتصادي ضرورية لأن المعارضة اليسارية وقفت ضده. فتراجع عنها.

ثم لم يشفع له كل ما سبق. محتكرو الوطنية هللوا للإرهابيين، كالعادة، على قتله. ومجدوهم. وخلدوهم في أغان لا يزالون يتغنون بها إلى اليوم. رغم أنهم يدعون أنه وحده الذي قوى الإسلامجية في البلد. أناس من بطانته القريبة في السلطة (سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان) خرجوا يجاهرون بأن الإسلامبولي منهم. هؤلاء أيضا يمجدهم سياسيون في المعارضة والسلطة إلى يومنا هذا.

هذا كفيل بأن يجعل أي رئيس يأتي بعد السادات يتردد ألف مرة في اتخاذ قرارات صعبة. خوفا على حياته، وعلى ذكراه بعدها. يخاف من أهواء الشعب المصري الصعبة الإرضاء.

فكون السيسي جاء بعد السادات، ولم يقتد بمبارك – رفيق السادات في المنصة – في طولة البال وتجنب الصدمات، فهذه شجاعة منه. ولا سيما أن ما يظهر فينا من طيبة ظاهرية، غير ما نخفي من قسوة، أن ”الناس في بلادي جارحون كالصقور“، كما وصفنا شاعرنا الأفضل صلاح عبد الصبور. هذا طبع مجتمعات ”المشاعر“، ضحاكة مكتئبة، مسامحة منتقمة، وفي كل الأحوال غير متوقعة.

يتميز السيسي كالسادات بالشجاعة، وتحمل المسؤولية.

لكن هل يتميز بالرؤية السياسة؟

إنه مثلنا. محيرون. مرهقون حين تبحث فينا عن نسق. فما بالك وهذا رئيس جاء إلى الرئاسة دون أن أن يشعر أنه مطالب بتقديم رؤية. جاء في مهمة ”إنقاذية“ كما يصفها هو. حتى صرنا نتلمس من تصريحاته من هنا وهناك لنفهم. فلم نفهم سوى أنه عازم على مطاردة الإخوان، وتبرئة اسم الإسلام من إرهابهم. أما في الاقتصاد، بالذات، فلم نعرف.

أذيع له حديث يقول فيه إن طالب الخدمة يجب أن يتكلف ثمنها، ففهمنا أننا سندفع ثمن ما نستهلك، ولن نحصل عليه مدعوما.

لكنه قال في حديث آخر إنه هو من أصر على رفع الحد الأدنى للأجور، لقطاع موظفي الدولة المتضخم. هذه تكلفة يتكلفها المواطنون أيضا، وإن تعودت دولتنا على عبارة ”تتكفل بها  الدولة“ فصارت توحي بأنها من ”جيب الدولة الخاص“. والأنكى أن المواطنين يتكلفونها دون أن ينالوا مقابلها خدمة تستحق هذه التكلفة. هذا صحيح بالنسبة لـ ٨٤٪  أو ستة أسباع – على الأقل – من القطاع الحكومي المتضخم. هذا تقدير السيسي نفسه.

١- إدارة السيسي تتخذ قرارات اقتصادية لا بد منها، كالتعويم ورفع الدعم.

لكنها تتأخر في قانون الاستثمار، وفي الحد من السيطرة المركزية للمؤسسة العسكرية على الاقتصاد.

نصير أي القرارات هو، السوق المفتوح أم الإدارة المركزية للاقتصاد؟

٢- يعلن عن مشاريع كبرى ويطرح مناقصات لشركات خاصة لتنفيذها.

لكنه يعود فيدعو المواطنين إلى الاكتتاب لتنفيذها. فيتسبب في سحب السيولة من السوق. ويركد.

في أي اتجاه يسير؟

وكيف تبدي فيه رأيا وهو يعطيك إشارات متناقضة، بعضها لا تملك سوى التصفيق له، وبعضها لا تملك سوى إخفاض الرأس في خيبة أمل منه.

القرارات في الاقتصاد تبدو كقطع بازل متنافرة مع جارتها. كأنما يرصها شخصان، كل منهم في يده نموذج مختلف عن الآخر في الصورة النهائية للبازل.

٣

نحن دولة تعاني من تناقضات رهيبة، بين القدم والحداثة، وبين الريف والحضر. تناقضات انهزمنا فيها أمام القديم، اقتصاديا واجتماعيا، منذ ١٩٥٢ حتى الآن.

هذه التناقضات موجودة في أي مجتمع. العالم يعبر عن تناقضاته من خلال نشاطه السياسي، وتبادل موقع القيادة، وتقصير مدة هذه القيادة. هذا إن اختار تداول السلطة. أو إن اختار ”الغلبة“ فبفرض رؤية معينة للمتغلب. وكل مجتمع وحظه. بعض المجتمعات حظه أتاتورك، وبعضها حظه بينوشيه، وبعضها حظه لي كوان يو، وبعضهم حظه ستالين وفيديل كاسترو.

لكننا نفعل شيئا عجيبا. نجمع هذه التناقضات ونرسلها جميعا إلى غرفة القيادة. غرفة القيادة بمعناها الواسع، الأشمل من مكتب الرئاسة. ونتركها ونترك أنفسنا نعيش مباراة طويلة ممتدة من لعبة ”شد الدفة“. تذهب إلى اليمن حينا، وإلى اليسار حينا. وتسير البلد في زجزاج أزلي أبدي.

غرفة الحكم في مصر فيها أصنام عدة، لديانات سياسية عدة. والقرار الصادر لا بد أن يمر بكل هذه الأصنام وينال بركتها قبل أن يخرج إلى العلن. ولكي يفعل ذلك لا بد أن يحوي في تفاصيله الإجراء ونقيضه، الدواء والمرض، أو السم والترياق. كل إجراءٍ ملاكٍ عندنا لا بد أن يرافقه شيطانه، كل نار تصدر ومعها ماؤها، وكل ماء يصدر ومعه ترابه.

والنتيجة أن محصلة المعادلة صفرية، مهما كانت النوايا طيبة. إن كنا محظوظين كانت إيجابية بطيئة، وإن كنا سيئي الحظ كانت سلبية متسارعة، بحكم قوانين الطاقة الحركية.

لن يتغير هذا إلا حين نفهم معنى السياسة. أن “حكم العائلة” التوافقي انتهى من العالم منذ انتهى المفهوم ”الأفقي“ الثابت للثروة وعدد البشر. أن القيادة تعاقد زمني وثقة ثم محاسبة على الأداء عند موسم التجديد.

هذا سببٌ صرنا نعرفه للحيرة. لكنه ليس كفيلا بإزالتها. ولا كافيا لحل المعضلة.

٤

ذلك أن كل ما سبق ينبئنا بما نعرفه ولا نحتاج إلا إلى صياغته.

أما ما لا نعرفه في الحقيقة ففي أي الجوانب يقف الرئيس السيسي.

هل هو مع مركزية الاقتصاد ويضطر اضطرارا إلى الإجراءات التي تشذ عن هذا السياق كرفع الدعم وتحرير سعر الصرف؟ أم هو مع إجراءات تحرير السوق ويضطر اضطرارا إلى الاحتفاظ بمركزية السلطة على الاقتصاد في يد المؤسسة الأقوى؟

هل هو مع تشجيع الاستثمار أما تأخير الإجراءات الخاصة به فيأتي من جهات أخرى؟

أم أنه هو الجهات الأخرى، لكنه يضطر تحت ضغوط إلى إطلاق تصريحات عن تشجيع الاستثمار؟

هل هو الذي عطل التعويم حتى انهارت العملة أكثر؟ أم أنه كان القوة الدافعة خلف التعويم وعطله آخرون؟

لماذا الإجراءات موجهة دائما نحو الطبقة الوسطى، بينما الهدر حادث في القطاع الحكومي وفي ما يسمى ”السلع الأساسية“؟ هل يتبنى فعلا فلسفة ”التنمية العادلة“ التي تستهدف القضاء على ثروات من استفادوا من الازدهار الاقتصادي في العقد الأخير من حكم مبارك؟

لماذا يعطي ميزة نسبية في ”نصيب الثروة“ لمن ينجب أكثر؟ فيحصل على نصيب أكثر من ميزانية دعم التعليم، ودعم الخبز، والدعم الصحي؟

ما الأفق لكل هذا؟

لا نعرف.

لكننا ندري، ونشعر، ونحس، بالنتيجة. أن مراكب الاقتصاد عطلانة. وأن القرارات الشجاعة التي اتخذت في الاقتصاد تأتي في غياب رؤية تجعلنا نستفيد منها. وأن السياسة الخارجية البراجماتية يصاحبها سياسة اقتصادية شعاراتية؟

وما يبعث على الحيرة أكثر أن الرأي الرشيد في الاقتصاد ذو صوت ضعيف للغاية في الساحة السياسية على اتساعها. الأصوات العالية مختلفة فقط حول كيفية ”اختراع دراجة“ التنمية الاقتصادية من أول وجديد، وشخص المخترع.

أما وظيفة الدراجة فيبدو أن الأغلبية متفقون عليه. فهي مقلوبة على ظهرها كصرصار. وحولها شغيلة يلفون العجلة الأمامية بأيديهم. ويمسحون عرقهم باليد الأخرى. ويشكون من التعب والشقا، ويسخطون على العالم المستريحة التي لا تشاركهم في هذا الشقاء.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading