مقالات هتعجبك

أزمة لبنان: الأنوثة التائهة والذكورة المتسلطة يصنعان الصراع السياسي

سعد الحريري استقال، ظهر في حوار تليفزيوني. حسن نصر الله خطب. توعد. حارب. الزعيم اللبناني يخاطب من. وهل هناك جمهور لهذا. الدبكة اللبنانية على إيقاع من؟

أذاع زميل في محطة بي بي سي أغنية مارسيل خليفة ”بغيبتك نزل الشتي قومي اطلعي ع البال”، من أشعار طلال حيدر. في القصيدة مقطع يقول: صوتهم مثل مصر المَرَة (المرأة) وبعلبك الرجال.

غضب زميل مصري غضبا شديدا، معتبرا أن إذاعة هذه الأغنية إهانة كبرى لمصر. والسبب بسيط. ثقافي عميق. تشبيه مصر بالأثنى، في نفس الجملة مع تشبيه بعلبك بالذكر، معناها أن بعلبك أفضل، وأقوم، وأمور أخرى تفهمونها.

الأنثوية في ثقافتنا مسبة، حتى والأرض مؤنث، ومعظم البلاد مؤنثة. 

مصر، مثلا، مؤنثة لغة، ومؤنثة في الخيال الشعبي أيضا، فهي أم الدنيا. وناطق العربية الظريف حين يحاول أن يسخر منها يستخدم النكتة القديمة، ”و … أبوها“. ويضع اسم بلده مكان النقاط. على أساس، طبعا، أن الذكر أفضل من الأنثى. هكذا يعبر عقل ذكر النحل هذا عن فهمه. في مصر أيضا نستخدم تعبير “ابن المرة” للإهانة.

وكنت أونث لبنان على العادة المصرية، لكنني توقفت تماما منذ سنوات، بعد أن لفتت نظري بفخر سيدة لبنانية عزيزة، لطالما نشطت في حقوق المرأة. فخر لا يتعلق بالحقيقة اللغوية أن لبنان مذكر، بل يتعلق بكونه مذكرا، بكون الذكورة في حد ذاتها فخرا. لبنان أيضا ”رِچَّال“، زلمة، يعلو ولا يعلى.

الرقصة اللبنانية الشعبية، الدبكة، ذكورية بحت، يصر أهل بعلبك أنهم الأفضل فيها. النساء يشاركن في الدبكة أحيانا، لكن بحركات ذكورية، تماما كالرقص المصري الحديث المصاحب لموسيقى المهرجانات. هو أيضا رقص ذكوري وإن رقصته النساء.

في مصر نعرف أن هذا الرقص الذكوري واكب مرحلة اتجاه مصر المؤنثة نحو الذكورة المتسلطة، وثقافة الذكورة المتسلطة، وعقيدة الذكورة المتسلطة. هنا لا أذم قيم الذكورة، بالعكس، قيم الذكورة قيم بنت وأنتجت وكافحت. أذم الذكورة المتسلطة، أذم قمع الأنوثة. لأن هذا يخلق مجتمعا أعرج، مغترا بحنجرته وعضلاته، ولا يرى نقطة ضعفه. مجتمعا تعيسا كحظيرة ديكة.

الرقص الذكوري المصري هذا أعقب سنوات من القدح والذم في الرقص المصري الأنثوي، بداية من وصفه حراما، وصولا إلى وصفه بأنه امتداد لإرث الجواري، ومصنوع لإرضاء رغبات الذكور. لاحظي هنا أن الذكوريين المتسلطين وكثيرا من النسويات يصلون إلى نفس النتيجة، وإن جاؤوا من روافد ”متقابلة”. هذا النعت الأدق بالنسبة إلي.

قبل رسوخ رقص المهرجانات الذكوري البحت كان لدينا مرحلة وسيطة، توقفت فيها النساء عن الرقص الأنثوي العلني، بينما احتكر رجال تقديم فقرة تشبه رقص النساء، اللمبي في أفلامه، وسعد الصغير بفرقة كاملة من الرجال كلهم يرقصون هز وسط. يرقصون ولا يرقصن. يحتل الذكور مكان الإناث ويقلدون رقصتهن – صيانة لهن إذ يجب أن يقرن في البيوت. المقولة التي تبناها وشجعها الذين يشجعون الإرهاب والميليشيات وقمع اليهود والنصارى وكراهية العالم.

غريب التداخل والتوافق و“التقابل“ بين المبالغة في التأكيد على الذكورة، وبين تجمل الذكور أمام أعين الذكور. وعدم استشعار الحرج في الرقص أمامهم. كيف هذا وأنت تعتبر الرقص مثيرا جنسيا؟

أثينا في مرحلتها القتالية كانت هكذا. كأن بعض الذكور في قمعهم للإنوثة يريدون أن يحتلوا مكانهن. في مجتمعات الذكورة المسيطرة يكثر تلقائيا التلامس بين الذكور بصورة صادمة. الذكورة المسيطرة تقمع الذكورة والأنوثة كليهما.

أعود بعد الاستطراد لأعيد. لبنان ليس فيه رقص أنثوي. 

في لبنان إناث، يرقصن على إيقاع الذكور.

ماذا يخبرنا هذا؟

بصيغة أخرى، لقد قيل لنا إن الرقص المصري النسائي رقص جوار، أو مصنوع لإرضاء الذكور. هل يعني هذا أن الرقص الذكوري مصنوع لإرضاء الإناث؟

ربما. هذه ممارسة شائعة في الحياة الطبيعية.

يدعون ويدعين أن المجتمعات ذات الرقص النسائي مجتمعات ذكورية، هل يعني هذا أن المجتمعات ذات الرقص الذكوري أنوثية، الأنوثة/المرأة فيها في مكانة عالية؟ أنها مجتمعات ”كرمت المرأة“؟

لا، من وجهة نظري، لا طبعا. الادعاء باطل ونقيضه باطل.

انتشار الرقص الأنثوي معناه أن المرأة حرة لترقص. الرقص ثقافة اجتماعية لا تنشأ بين ليلة وضحاها، ولا تصل إلى كل بيت، وكل عضلة، وكل عظمة في الجسم، بالأمر. لا أشك أن المرأة المصرية رقصت أفضل حين كانت حرة أكثر. تعبر عن نفسها كما هي. وهي، طبعا وحتما، أنثى. والمرأة لكي تجيد الرقص ترقص كثيرا، في وجود آخرين وغيابهم. ولكي تجيد الرقص تستمع إلى موسيقى وإيقاع وتتفاعل معهما. كما أنها تخلق إيقاعا على مقاسها. لاحظي. تخلق إيقاعا على مقاسها. إيقاعا يسعدها فترقص. الرقص المصري روح ثقافة مصر. تغيرت لغتها مرات، وظل رقصها. انحدرت وصعدت مرات. وبقي رقصها لا يباريها فيه أحد.

الروح الأنثوية في القلب من هذا. بكل فخر. الأنثى السعيدة تجاور ذكرا سعيدا.

الروح الأنثوية ليست عكس الروح الذكورية. أشرت إلى هذا إشارة سريعة أعلاه. الروح الأنثوية قرين للروح الذكورية. روح مستقلة بذاتها، تعبر عن نفسها بذاتها.

الأنثوية ثقة في الأنثى كنوع، أن تكون كما تريد أن تكون، في مسار أنثوي ليست الذكورة خط قياسه، بل نظيره الذي يتفاعل معه بأشكال مختلفة.

شيوع الأنثوية تعبير عن الراحة داخل جلدك.

الخلط ناشئ من ”النسوية“. تلك الأخيرة، في جزء كبير منها، شيء آخر.

الروح النسوية تعبير عن مقاومة الضغط الذكوري، الروح النسوية – من ثم – مقابل للذكورة المستبدة المتسلطة متلازم معه. شيوع النسوية تعبير عن وجود أزمة في المجتمع.

النسوية من وجهة نظري إعجاب بالغ بالذكورة و رغبة في التماهي معها، إما بتبني قيمها، أو بتكسير رأسها.

أيهما نراه في لبنان؟

قيم المقاتل هي التي تحكم لبنان. لديك أجيال حتى الآن يعاير الذكر منها رفيقه إن لم يكن قد شارك مقاتلا في الحرب الأهلية. وفتى أحلام الفتاة كان مقاتلا. الطوائف كلها، كلها، اختارت زعيم ميليشيا، أو قائد جيش، سابقا على رأسها. نبيه بري، وليد جنبلاط، ميشيل عون، سمير جعجع. بينما على رأس الجميع زعيم ميليشيا لم يحمل بعد لقب ”السابق“، وموطن رياسته أنه لا يزال ”حاليا“، لا يزال يأمر بالقتل، يأتمر به ذكور آخرون، يودون لو قبلوا قدمه، ويذكر الفتيات بأحلام مراهقتها، بذلك القائد الحازم الآمر الناهي، القادر على الفعل، ولو كان ”تسكير حارة“. فما بالك بالقادر على تسكير منطقة من العالم.

لبنان، سأونث الكلمة هنا، ستحدثك كثيرا بين سطور صحف الصباح عن النسوية وعن الذكورة المتسلطة، لكن حذار أن تلتبس عليك الأمور، فهي معجبة أشد الإعجاب بقيم الذكورة المتسلطة، الأمرة الناهية كـ ”سي السيد“. وهي في المساء سترقد تحت جسد الإله بعل، تسبح بحمده وتقدس له. لا يغرنكم ما ترونه ظاهرا، الثقافة شيء دفين.

بعلبك معناها بقاع الإله بعل. والإله بعل إله الحرب والذكورة. بعل تعني السيد. وتستخدم في اللغة العربية بمعنى الزوج باعتباره سيدا لزوجته.

أما بيروت فمشتقة من بيروي (فيروي)، ابنة أدونيس وأفرودايتي، الأنثى التي أرضعتها سيدة العدل (العذراء أسترايا) الحكمة والقانون.

بيروت مَرَة، وبعلبك رِجَّال.. ولبنان، في حيرة من أمره.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

%d