مقالات هتعجبك

كيف أدت ثقافة “سد الرمق” إلى كارثة سكانية في مصر

الأرقام على إطلاقها صامتة. لا تنبئ بمعناها إلا حين توضع في مقارنة مع غيرها. تعداد المصريين وصل إلى ١٠٤ مليون، منهم عشرة ملايين يعيشون خارج مصر. حين نضع هذا في مقارنة مع بريطانيا، إحدى الدول المتقدمة، والتي يلجأ بعضنا إلى مقارنة مصر بها لأنها كانت دولة احتلال، يظهر مدى الأزمة.

britainegypt population

الإحصائية البسيطة المرفقة هنا تبين عدد سكان البلدين سنة ١٩٥٥، مصر ثلاثة وعشرون مليونا ونصف المليون نسمة، وبريطانيا تزيد عن الواحد والخمسين مليونا. أي أكثر من ضعف عدد سكان مصر. الآن، بعد ٦٢ عاما، مع الإحصاء الآخير المشار إليه سابقا،زاد عدد السكان المصريين إلى أكثر من أربعة أضعاف، بنسبة زيادة ٣٥٠٪، بينما لم يزد عدد سكان بريطانيا إلا بنسبة ٣٠٪ فقط، ليصل إلى ٦٦مليونا.

 

السؤال الأول الذي يجب أن نسأله لأنفسنا: لماذا؟ والإجابة لها أكثر من سبب، .

فلسفة الحياة

هل غرضنا من الحياة أن نبقى على قيدها، ونملأ سجلاتها بأسمائنا، وأن يكون شاغلنا هو الحصول على الأساسيات التي تمكننا من البقاء، أم غرض الحياة أن نعيش في مستوى جيد، يمكننا من الإضافة إليها؟

بين هذين الغرضين تتباين المجتمعات. المجتمعات التي ترى أن السعادة في هذه الحياة غرض في حد ذاتها فتتخذ من الإجراءات ما يجعل هذا ممكنا. من حقها أن تتوسع في العدد، ولكنها لن تفعل ذلك إلا حين تحقق ما يكفل للعدد الإضافي نفس الغرض.

أما المجتمعات التي ترى الدنيا مجرد ممر للآخرة، فإنها لا تعبأ كثيرا بها. ستبحث لنفسها عن أغراض أخرى تحققها من خلال هذه الحياة، ليس منها الاهتمام بجودتها. بل الاهتمام بتحقيق رغبات السماء من أهل الأرض، هكذا تدعي. ولذلك ستنتشر مقولات تحذر من مجرد التفكير في تكلفة المعيشة، ستعتبر هذا تحديا لكفالة الله للمواطنين بالرزق، وطبعا تحذر كل التحذير من الاقتصاد في النسل على قدر القدرة.

وهي تضرب في هذا أمثلة صعبة الفهم. أشهرها أن كل شخص سيرزق كما يرزق الطير. كأن الطير لا يسعى إلى الحصول على قوته وقوت عياله، وأنه إن لم ينجح في المهمة سيموت وتموت فراخه. ربما يكون صيدا لطيرا أكبر، أو ربما تعمل العوامل البيئية ضده. من بين مولودين من مواليد الدب القطبي، مثلا، يموت واحد، أي النصف، كل عام، لمجرد أنه لا يجد ما يكفيه. أليس الدب القطبي، كالطير، مكفولا بالعناية الإلهية لو أخذنا بهذا المنطق؟

لكن هذه مجرد إشارة بسيطة. المشكلة الأكبر أن هكذا مجتمعات تنتج سلطات اجتماعية وسياسية تفكر بنفس الطريقة وإن قالت غير ذلك.

كيف؟

السياسة

وظيفة الكفالة الربانية تنتقل إلى الدولة الأبوية، التي أحب أن أسميها دولة الرب الأرضي. كما أن الله يتكفل بالرزق ويطلب العبادة فتلك الدول تقيم شرعيتها على التكفل بطعام المواطنين وشرابهم مقابل الولاء السياسي. والنتيجة أن الجهود تنصب على بقاء الفرد حيا، لا منتجا ما يكفله ويكفل عياله على أقل تقدير.

ينتج هذا وضعا اجتماعيا سياسيا غريبا هو “دولة سد الرمق”. تصير مسؤولية المواطنين إنتاج الأبناء، ومسؤولية الدولة إطعامهم وتعليمهم وتوظيفهم

المشكلة أننا حين نأتي إلى المهارات الإنتاجية، كالتعليم، والرياضة، والخبرات اليدوية والتكنولوجية فهي جميعا تتلف، لأنها مهارات تعتمد على الوفرة المادية لتجهيز المدارس والملاعب الرياضية وفرص العمل. تتلف لأنها تصير مزدحمة بعدد أكبر مما تستوعبه. وبدلا من أن يصير هذا العدد عونا إنتاجيا، يتحول إلى التهام استهلاكي، حظ الواحد منه قليل جدا.

أما المزاج العام فيتحول إلى مزاج الشكوى، لأن العقد الاجتماعي الذي انبنى بين الدولة ومواطنيها كما أسلفت، والمواطن يرى بموجب هذا العقد أن كل نقص في الخدمات تقصير لا بد أن سببه “هدر للثروة”. لا يعني هذا أن المواطن هو الجانب الملوم في هذه الحالة، فالتعاقد له طرفان، والإدارة السياسية بنته على معادلة اقتصادية سياسية لا تؤدي إلا إلى الفشل. هذا يقودنا إلى النقطة التالية

الاقتصاد

الدول المتقدمة ليست فيها حملات لتنظيم النسل، لكن فيها ما هو أنجع. المسؤولية الفردية..

المسؤولية الفردية تعني أن كل إنسان له أن يتخذ من الخيارات ما يريد، ويتحمل نتائجه. إن أردت أن تنجب عشرة تفضل، لكن تحمل التكلفة.

لكنها تعني أيضا أن هذه الفرد مسؤول عن تنمية ثروته، ليس من حق أحد أن يتدخل للاستيلاء عليها. وهو بتنمية ثروته مضطر إلى فتح أبواب لآخرين

شخصية المجتمع لا يحددها قرار واحد، بل تحددها فلسفة عامة في الحياة. هل هذا مجتمع مغامر أم خائف. هل هذا مجتمع استقلالي أم متكل. هل هذا مجتمع متحمل لمسؤولية أفعاله مشغول بإنجازه أم يحاول مراقبة بعضه بعضا

الاقتصاد إذن مرتبط بالسياسة والمجتمع، لذلك فإن الإصلاح الاقتصادي الرأسمالي، الذي أوصل أوروبا الغربية وأمريكا إلى ما هي فيه جاء نتيجة لإصلاح مجتمعي، ولفكر مستقل ينظر إلى هذا العالم وتعميره على أنه معيار الأداء، وهو ما يهم البشر من بعضهم البعض، أم العبادة الدينية وما يرتبط بها من معتقدات فأمر بين الإنسان والإنسانة وربهما

مجتمع يفهم المعادلة الحسابية البسيطة. لكي يتقدم المجتمع، لا بد لكل وحدة فيه أن تكفل نفسها اقتصاديا، وأن تقتصر أفعال السلطة على حفظ الأمن ومراقبة القانون وتنفيذه

أما الاقتصاد المعتمد على الأخذ من الأغنياء كل دورة من الزمن، والإنفاق على الفقراء، فهو يشبه تماما تكديس الجامعة بأعداد مهولة. فلا الفقراء يستفيدون ولا الأغنياء يستفيدون

التوسع في العدد خطوة تالية للتوسع في الإنتاج، وليس سابقة عليها. التوسع في مجانية المرافق خطوة تالية للتوسع في إنتاجها، وليس سابقة عليها. هذا يخلق حافزا

الغريب أن مصر التي أديرت بهذه الطريقة التي أشير إليها هي التي أنجبت طه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ، وكلهم أبناء عائلات بسيطة. وأنجبت سعد أفندي زغلول ومصطفى النحاس ابن تاجر القماش. أشهر زعيمين سياسيين في مصر، وهما لم يكونا من عائلات ثرية. ذلك أنها فهمت كيف يدار الاقتصاد والمجتمع، وكيف يتوسع تدريجيا كما تتوسع دائرة في الماء انطلاقا من جسم سقط فيه وصار مركزه

لا بد من فلسفة سياسية توقف هذا الانحدار

 

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

1 Comment on كيف أدت ثقافة “سد الرمق” إلى كارثة سكانية في مصر

  1. فلسفة سياسية ؟ بسيطة ! دا احنا عندنا طبيب الفلاسفة بحاله 😀

Leave a Reply to HealdsfatherCancel reply

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading