مقالات هتعجبك

حروب الهوية العربية: ٨- المواطن ودولته

تفتح التليفزيون فترى مسؤولا يقول ”نريد أن نحافظ على هويتنا“، وفي المسجد المجاور يقول الخطيب ”نريد أن نحافظ على هويتنا“، تناقش صديقا في أمر ما فيقول لك “نريد أن نحافظ على هويتنا”؟

هوية من؟

هوية المتحدث، يعتقد أنها “هويتنا”، أو يريد أن يفرضها كـ “هويتنا”. قد يكون المسؤول عروبيا إمبراطوريا، وهو يقصد بهويتنا الهوية العربية، أو قد يكون مصريا قوميا، وهو يقصد هويتنا المصرية بمكوناتها كما يراها هو، أو قد يكون إسلاميا إمبراطوريا، وهو يقصد هويتنا الإسلامية العثمانية لو كان إخوانيا، أو السلفية القرشية اليثربية لو كان سلفيا.

٢

في مرحلة من التجمع البشري السياسي كان الناس يعرفون أنفسهم سياسيا بالانتساب إلى العشيرة، إلى صلة رحم أو مصاهرة، وبالتالي يتبنون القيم التي تنشأ من هذا النسب معيارا، يقيسون عليه الالتزام والانحلال.

كبرت المجتمعات، وعرف البشر الدولة، وتلك تضم أكثر من عشيرة أو قبيلة، وبرز السؤال: أخلاق أي عشيرة تختار، وقيم أي عشيرة تتبع، ومرجعية أي عشيرة تقدس؟ كان لا بد من منظومة أخلاقية سياسية أوسع.

ومرة أخرى تغيرت الهوية عبر العصور، عرفنا مثلا المواطنة على أساس الدين في جزء كبير من التاريخ القريب، فكان المواطن من الدرجة الأولى هو المواطن الذين يدين بدين الدولة، ومذهبها، ثم يأتي الباقون بعده بتصنيفات مختلفة، ما بين ذميين إلى منبوذين.

تعددت الديانات السماوية.

وتعددت الطوائف داخل كل ديانة سماوية.

والأهم من ذلك تعددت المعارف الدنيوية واتسعت، فصار نصيب كل شخص من المعارف مختلفا، وبالتالي نمط حياته ورؤيته للدين مختلفا. اتسع الملعب على الحكم، وعلى حاملي الراية، واختلط المسلم باليهودي بالمسيحي بالكردي بالعربي بالملحد بالعالم بالجاهل في كل بقعة من الملعب، اختلطوا بنِسَب مختلفة، وكان لازما البحث عن هوية “سياسية” جديدة، تحترم “الهويات الفردية” لكل هؤلاء.

خطوة خطوة نشأت الدولة الوطنية Nation/State. ما معنى هذا؟

٣

قُسِّم ملعب الأمم تقسيما جديدا. لم يعد العالم الذي يخصنا مقسما إلى إمبراطوريتين أو ثلاث أو أربع، صار مقسما إلى مربعات ومثلثات كثيرة. هذا التقسيم لا يعتمد على ديانة الناس، بل على الجغرافيا ومن يسكنها، من يستوطنون الأرض، صار اسمهم المواطنين. كل من يسكن حدود أرض معينة متساو قانونا مع الآخرين، بغض النظر عن لونه ودينه وجنسه. المواطنون يستطيعون تحدي ما يرونه مختلفا مع هذا المبدأ من خلال القانون نفسه، كما حدث في حركة الحقوق المدنية في أمريكا، ومع مساواة المرأة والرجل في الحقوق السياسية في أوروبا. لم تولد الدولة الوطنية كاملة الأوصاف في أي مكان. ولن تكون كاملة الأوصاف في أي وقت وزمان. لكنها معاصرة. مرنة. متغيرة.

والتغير يستلزم أن الدولة لا تفرض هوية على مواطنيها، بل تفرض ما يصون لكل مواطن هويته، وبالتالي ما يضمن تفاعل الهويات الفردية داخل المجتمع، ومن حصيلة تلك الهويات الفردية وتفاعلها يفرز المجتمع بذاته هويته، التي تختلف اختلافات ضئيلة من سنة إلى سنة، ومن جيل إلى جيل، تماما كما تختلف الطبيعة وكائناتها بيولوجيا في خطوات تدريجية بطيئة. لم يتحول مجتمع من ”الالتزام“ إلى ”الانحلال“ بين يوم وليلة، كما يدعي من ينصبون أنفسهم حراسا للهوية، بينما هم في الحقيقة فارضوها على الآخرين. بالعكس. لقد حدثت الاختلافات الجذرية الراديكالية في الملفات التي كان فارضو الهوية يكبتونها ويجبرون الناس فيها إجبارا على الانصياع، تلك التي أدت إلى صدامات ومواجهات. أما ما كان النقاش فيه مفتوحا فقد تحولت المجتمعات بشأنه بسهولة ويسر وتدريج.

لدينا نوعان من الهوية. الهوية الفردية، وهي مصونة بحكم المساواة، كن مصريا، ثم كن مسلما أو مسيحيا أو بهائيا أو درزيا أو شيعيا أو ملحدا أو ما تشاء، أحب ما تشاء وابغض ما تشاء. هويتك الفردية مكفولة. كل الهويات الفردية مكفولة بما لا يخالف القانون، وبما لا يعتدي على هويات الآخرين. ومنها يصاغ النوع الثاني، الهوية الوطنية. ليس تبعا لهويات محددة سلفا لجماعة داخل المجتمع.

سؤال الهوية إذن، كسؤال المعرفة، تطور هو نفسه عبر الأزمان، في علاقة تبادلية. المعرفة جعلتنا مدركين أكثر للهوية. والهوية جعلتنا منفتحين أكثر على المعرفة. أما المجتمعات المتخلفة، فقد تخلفت في الأسئلة مفردة ومجتمعة.

هنا نرجع إلى الدول العربية، بعد سقوط الإمبراطورية، لكي ندرك المشكلة التي يعتقد أناس أنها ثانوية.

٤

لو نظرت إلى المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين لوجدت أنه كان يسير بخطى جيدة في فهمه لفكرة الهوية في الدولة الوطنية، دولة المواطنين. بالممعنى والتدريج الذي أشرت إليه أعلاه.

في النصف الثاني استولى على السلطة تياران متشابهان في نظرتهم للهوية. كلاهما يستعير أسلوب العصور الأسبق في تغلب مجموعة من الناس، حيازتها السلطة، وفرض هويتها على المجتمع. هذا داخليا. ولم يكن هذا إلا ليؤدي إلى استعداء وإقصاء.

وخارجيا، من المفارقة أن هذين التيارين المتصارعين على السلطة، الإسلاميين والقوميين العروبيين، كانا في الحقيقة وجهين لعملة واحدة. يريدان فرض الهوية على الدول المجاورة.

الدولة في عرف الإسلاميين ليست الدولة الوطنية، ليست الدولة ذات الحدود الجغرافية التي يتساوى كل من يعيش على أرضها في الحقوق والواجبات. لا. الدولة هي نفسها الدولة القديمة. المفهوم المنتمي إلى عصر سابق. الدولة فيه هي الإمبراطورية الإسلامية. ويجب أن تحكم من العاصمة الأقوى. وهي في تلك الحالة الأستانة. ينبغي أن نتذكر أن الإخوان جماعة نشأت خصيصا لإعادة الخلافة العثمانية بعد أربع سنوات من سقوطها. هذه هي مشكلة الهوية عند الإخوان المسلمين. مشكلتهم أنهم يريدون إلغاء الوطنية، يريدون إحياء التمييز بين المواطنين على أساس الدين، في منطقة جغرافية شاسعة تمتد إلى كل أرض الإمبراطورية الإسلامية السابقة، ولن تقف عندها. وليست تلك تفصيلة يمكن التغاضي عنها. هذه مشكلة في صميم البناء السياسي للدولة الحديثة.

نفس مشكلة الهوية، ولكن تحت شعارات مختلفة، ظهرت عند التيار الإمبراطوري الآخر، العروبيين، بمختلف تصنيفاتهم من ناصريين إلى بعثيين. هذا التيار أراد أيضا فكرة جامعة تشبه الدولة القديمة، لكنه بحث عن نطاق جامع آخر يسمح لمصر – في حالة الناصريين – أن تطلب الزعامة، وللعراق وسوريا – في الحالة البعثية – أن يدعيا حقوقا تاريخية. وللجميع أن يتدخل في شؤون الجميع. والغريب العجيب في الحالة كلها أن دول الخليج وحدها (العرب بلا شك) هي التي استبعدت من ادعاءات الزعامة السياسية الوحدوية، وهي التي كانت في مرمى سهام الانتقاد، وهي ملاحظة ذات دلالة. الملاحظة التالية أن كثيرا ممن كانوا سابقا يدعون العروبية يفضلون تحالفات مع إيران وحلفائها، على التحالف مع العرب العرب. فالعرب بالنسبة لهم استعارة، فصلوها بمازورة اختيارات سياسية – تقدميين ورجعيين، وطنيين ومتخاذلين، اشتراكيين وعديمي الاشتراكية (!) خائني المسؤولية (!) – إن لم توف هذه المقاييس فلست عربيا حقا.

وما ذاك إلا لأن الهوية العروبية في واقع الأمر كانت قناعا يخفي شعور هويات قديمة بأن العرب طمسوا ثقافتها. فصاروا يفعلون بادعائهم العروبة “النموذجية” التقدمية نفس ما فعلته فارس قديما بدعوى الإسلام “النموذجي” الشيعي، والآن نرى تحالفا بين العروبة النموذجية والإسلام النموذجي ذاك. بل وبينهما وبين الإسلام السياسي العثماني، ممثلا في الإخوان المسلمين، أيضا. في دليل آخر على وجهة نظري التي جعلتني أعتبر الهوية العروبية ضمن حروب الهويات في هذه المنطقة. الحرب هذه المرة على الدول الوطنية، سواء عربية الهوية كدول الخليج غير الملتحقة بالمشاريع الإقليمية، أو ذات هويات خاصة كمصر، وسوريا، ولبنان والعراق والجزائر وليبيا وتونس والمغرب والسودان، وكلها دول تفاوت نصيب أبنائها من التعبير عن هوياتهم الخاصة في مرحلة من القرن الماضي، وخضعت بصورة أو بأخرى تحت سيطرة “فارضي الهوية من البعثيين والعروبيين والإسلامجية”.

هذه هي المشكلة. هذه هي “الصامولة” الغائبة في تحليل الذهنية السياسية في منطقتنا. أن كثيرا منا لم يتخطوا في الحقيقة عصر التفكير السياسي الإمبراطوري. لم يدخلوا بعد في مرحلة الدولة الوطنية. تخلف سياسي يوازي تخلفنا العلمي والمعرفي، ويوازي تخلفنا الاجتماعي واهتمامنا القيمي بالشكليات، ويوازي تخلفنا التعليمي والطبي.

لكننا نستطيع أن نقر بالتخلف المادي، أو على الأقل لا نستطيع أن ننكره لانه مرأي رأي العين. أما التخلف الفكري السياسي فصعب الإدراك. بالعكس. يقدم على أنه وطنية، يقدم على أنه شعور إيجابي. وتقدم “الهويات الوطنية” كالمصرية واللبنانية والعراقية والسودانية والإماراتية وغيرها على أنها “انعزالية”.

لكن حان الوقت لكي ندرك المشكلة ونصحح المفاهيم. لكل الأطراف. كونك مصري الهوية لا يعني أن تكره جيرانك في الجغرافيا واللغة ومفردات من الدين ومفردات من التاريخ، بل يعني أن تسعى إلى تحسن الأحوال في بلدك، أن تركز على هذا الهدف، أن تضع مصالح بلدك فوق كل مصلحة، أن تتعاون مع من التعاون معه في مصلحة بلدك. لا تعارض هنا. أما المزايدات فقد أوردتنا المهالك. أما المزايدات فهي في المشاعر الوطنية – كما في المشاعر الشخصية – لا تعبر عن الحب، بقدر مع تعبر عن الرغبة في الاستحواذ.

ببساطة، اهتم بنفسك، أشرق كي يتطلع الآخرون إليك، ومد يد التعاون، فالثقافة المشتركة، والتاريخ المشترك، والجوار الجغرافي، واللغة التي نكتب بها، كل هذه أمور ترسخ في النفس قرونا بعد قرون، ولن تذهب إلى أي مكان، ستظل هنا حتى لو فتحنا لها أبواب الصناديق التي نريد أن نعلبها فيها. فلتعبر الإمارات عن نفسها بطريقتها، والسعودية بطريقتها، والجزائر بطريقتها وليبيا بطريقتها، ومصر بطريقتها، هذا ثراء للجميع، يبدأ من إثراء الهوية الفردية نفسها.

لقد تسببت الهويات الوحدوية في تمزيق أوطاننا. والسبب بسيط جدا. أنها أفكار سياسية لا تتناسب مع دوران عجلة الزمن، تدور عكسها. فتمزق بدل أن تنساب.

النظر إلى الأمام يبدأ بفكرة الهوية الوطنية. والهوية الوطنية لا تفرض في اتجاه معين. بل تصاغ بصيانة هويات المواطنين وتتركها تتفاعل، دون السماح لجماعة أو فرد بتخطي القانون، ولا بتنصيب نفسه يد القانون.

ومصر هنا مجرد مثال. الهوية العروبية وصلت إلى شكل صراع علني في دول أخرى (كالسودان والعراق والجزائر). والهوية المذهبية شكلت عبئا على دول كان يمكن لها بما تملك من ثروة وثقل معنوي أن تنال مكانة أرفع.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading