مقالات هتعجبك

حروب الهوية العربية: ٧- مصر والسعودية

القومية العربية: هل كانت فعلا احتفاء بالعروبة؟ أم محاولة لاستغلال ثقلها المعنوي؟

هل الهويات الجامعة تحل مشكلتنا التاريخية أم تعيد إنتاجها؟ هل تقرب الجوار أم تزيد الصراع؟

بعد أن عاش العالم الإسلامي قرونه الأولى في نزاع الفرس مع العرب. تحول الصراع فصار بين الروم والفرس، وغاب العنصر العربي من موضع القيادة بالتدريج حتى اختفى.

انعكس هذا على البعد الثقافي أيضا. لولا القرآن لاختفت اللغة العربية من الساحة تماما. لكنها حتى مع القرآن بقيت لغة للأذكار والعبادات. شكرا للحفاظ، رجال الدين، فقد قضوا على وجودها المزدهر في قرون الإسلام الأولى، فطردوا المفكرين من الساحة وطاردوا الأفكار المعاصرة لزمنها في الكتب. من أول غيلان الدمشقي في القرن الأول، إلى ابن رشد في القرن السادس. فأخلوا الحياة العامة لأنفسهم يمرحون فيها ويسرحون. يجادلون أنفسهم، ويمدحون أنفسهم، كناظر إلى نفسه في المرآة، يتفاعل مع صورته بإضاءات مختلفة، كي لا يمل.

كسب رجال الدين. خسرت الثقافة العربية، وهُجرت اللغة وتحجرت. حين سافر رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا في القرن التاسع عشر لم يجد كلمة عربية يصف بها المسرح، التقليد الموغل في القدم، والمعروف منذ الإغريق. تعجب من تقدم فرنسا، ولكنه تعجب أيضا من أن ”النصارى“ هناك رائحتهم جيدة.

رغم ذلك، كانت رحلة الطهطاوي إلى فرنسا بداية وعي مصري بالعالم وما وصل إليه. خطوة ضمن خطوات في مشروع نهضة تعليمية وثقافية. قادها مؤسس الأسرة العلوية، محمد علي، رجل تابع للسلطة العثمانية لكنه في نفس الوقت طموح لإقامة دولة حديثة. تنهل من المستقبل كما رآه على الضفة المقابلة من البحر المتوسط.

٢

أما على الضفة الأخرى من البحر الأحمر كانت هناك أسرة طموحة أخرى، تسعى لإنشاء دولة، لا تنظر إلى أوروبا، بل إلى تراث بيئتها المحلية في الجزيرة العربية.

اصطدم محمد علي، لصالح الإمبراطورية العثمانية، بآل سعود وقضى على دولتهم الأولى، واقتحم جيشه عاصمتها، الدرعية.

وبعد مئة عام ويزيد من هذا الصدام بين سلطتين طموحتين، متباينتي الولاء والرؤية، سقطت الخلافة العثمانية. كان المفترض أن المستقبل الآن مفتوح. وأن أسباب صراع الهويات على قيادة الإمبراطورية زالت.. لكن لا.

مياه كثيرة جرت تحت السطح خلال ذلك القرن. صراع في شبه الجزيرة لإقامة كيان سياسي يتخطى القبلية والأمراء المتناحرين، قامت خلاله دولة سعودية ثانية وسقطت. وصراع في مصر للتحول إلى دولة حديثة تنقل تجربة أوروبا. تباين كبير بين التجربتين، والقيم التي تنشغل بها كلٌ. لكن يجمع بينهما شيء واحد:

الرغبة في التعبير عن هوية مستقلة. الرغبة في الاستقلال عن الهوية الرومية التي حكمت المنطقة لقرون

٣

الآن تخيل نفسك شخصا عاش في النصف الأول من القرن الماضي.

شاهدَ الصعود المصري وصولا إلى دستور الاستقلال عام ١٩٢٢، الدولة الوطنية التعددية التي يساهم فيها مواطنون مسلمون ومسيحيون ويهود ومن أصل مصري وأرمني ولبناني ويوناني وإيطالي، تجمع بينهم المواطنة المصرية. وتتقدم اقتصاديا وسياسيا وفنيا وأدبيا وسينمائيا، وتنشغل بإبراز الهوية المصرية في كتابات طه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد لطفي السيد وأغاني سيد درويش.

شاهد صعود بلد اسمها ”مصر“.

وشاهد الصراع في شبه الجزيرة العربية. حيث الشريف حسين يعلن نفسه خليفة عربيا، ويتمتع بتأييد لا بأس به في غير أرض الحجاز من مستعمرات العثمانيي السابقة. قبل أن ينتصر عليه آل سعود ويعلنوا قيام الدولة السعودية الثالثة على صورتها الحديثة (تطورا عما كانت عليه ١٩٠٢).

شاهد تكون دولة اسمها المملكة “العربية” السعودية.

لو شاهدت هذين المسارين ماذا تتوقع؟ من ناحية الهوية وشكل الدولة التي تطمح إليها السلطة على جانبي البحر الأحمر؟

عن نفسي كنت سأتوقع أن يكون لدى السعودية ادعاءات زعامة عربية، ترث بها – على الأقل – طموحات الزعيم الذي هزمته.

وكنت سأتوقع أن تمضي مصر في طريق دولة وطنية تركز على تلك الهوية المصرية الخاصة، وتصر عليها. كما أصرت الحضارات القديمة في المنطقة على هوياتها ولغاتها.

لكن ما حدث غير ذلك.

٣

أما وقد غابت الإمبراطورية العثمانية في القرن العشرين، ومع الصعود المصري، كان الطموح المصري إلى القيادة يمثله تيار الهوية المصرية. بلد تشرق فيتطلع الناظرون إليها. وكان هذا التيار يعتمد ”الجاذبية“ سبيلا إلى القيادة التلقائية، بما ينتجه البلد من فكر وفن وسياسة. وكانت كتابات نخبته من أحمد لطفي السيد إلى توفيق الحكيم وطه حسين، تركز على فكرة الهوية الخاصة، دون إغفال الثقافة العربية كمكون أساسي فيها.

لكن مصر لم تكن هذا التيار وحده، وإن كان في الصدارة. لم تكن أرض الأحلام المتحققة وحدها، بل كانت أيضا أرض الأحلام المنكسرة. وتلك عبر عنها تياران كبيران آخران. تياران حلما بالإمبراطورية، المنصرمة، أو المزمعة.

ليست تلك ظاهرة فريدة في مصر، إذ شهدتها أوروبا مع الحركة النازية الساعية إلى إحياء الامبراطورية الجرمانية، والشيوعية التي ناهضت الإمبريالية بينما كانت تحيي إمبريالية سوفييتية، والفاشية التي تسعى إلى إعادة روح روما القديمة وقيمها.

٤

أول التيارين كان نصيرا للإمبراطورية المنصرمة، يعتقد أن المصريين مواطنون في الإمبراطورية/الخلافة العثمانية. ولا بد من الإبقاء عليها، أو من استعادتها بعد أن انحلت. هذا التيار موجود من أول مصطفى كامل إلى حاشية الأسرة العلوية إلى الأزهر، لكنه بعد سقوط الخلافة تجسد في الإخوان المسلمين تجسدا.

وثاني التيارين كان أنصار الإمبراطورية المزمعة التي لم تكن. كان تيارا إمبراطوريا عروبيا استلهم فكرة الخلافة العربية التي حاولها الشريف حسين من قبل. وأوضح من مثل هذا التيار كان عزيز باشا المصري، مربي الملك فارق ثم المفتش العام في عهده حين صار ملكا. وهو رجل خدم في صفوف الشريف حسين، ثم اختلف معه بسبب علاقته بالإنجليز، إذ سبق له أن كان ضابطا في صفوف الجيش العثماني وكان الإنجليز أعداءه الأصليين. عزيز باشا المصري كان – لاحظوا ذلك – الأب الروحي للضباط الأحرار، وحلقة الوصل بينهم وبين الإخوان المسلمين.

عن طريق هذا الرجل التقى التياران الإمبراطوريان، الإخوان المسلمون العثمانيون والضباط الأحرار القوميون العروبيون. وكانت حرب ١٩٤٨ فرصتهما للدعاية ضد الدول المصرية. ولنسج أساطير البطولة حول الإخوان وجمال عبد الناصر، ثم كان انقلاب الضباط الأحرار على مصر الدستورية في ١٩٥٢. مصر ”الْمُشْرِفَةُ مِثْلَ الصَّبَاحِ،“ أريد لها أن تكون أيضا ”مُرْهِبَة كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ؟“

 أحيانا ننخدع بالصراع الذي وقع بين هذين التيارين الإمبراطوريين. لكن الحقيقة أن التيارين –  من حيث الهوية الأممية – قريبان جدا، وما خلافهما إلا على حجم الدين وموقعه في الدولة ثم الإمبراطورية، وبالتالي حجم نصيب الإخوان المسلمين، وموقعهم من السلطة.

ورث الضباط الأحرار فكرة الخلافة العربية، تحت اسم الوحدة العربية. حولوا اسم البلد من مصر إلى “مصر العربية”. وووضعوا صقر قريش على العلم. من أين أتى صقر قريش، وما علاقة مصر بصقر قريش؟ً! هنا سيحدث الصدام الحتمي. إذ لا بد لمن يرفع لواء العروبة أن ينازع عليها أهلها. فكان النزاع مع المملكة العربية السعودية. نزاع سيضر فيه كلٌ الآخر.

٥

كفاح أسرة آل سعود السياسي، إصرارهم على الدولة السعودية مرة وثانية وثالثة، من ١٧٤٥ إلى ١٩٣٢، لا يأتي من فراغ، ولا يؤدي إلى فراغ. قصة الملك عبد العزيز آل سعود في إقامة الدولة الثالثة تستحق المطالعة لمن أحب. قصة كالأفلام.

يهمنا هنا أنه فعلها في ظل ظروف صعبة وتوازنات سياسية دقيقة. إمبراطورية تنهار، قوى كبرى ترتب أوراق حرب عالمية، ومنافسات داخلية متتابعة أفضت في النهاية إلى منافسة مع الشريف حسين، الطامح إلى الخلافة. كل هذا لا يمكن أن يحدث على يد شخص يفتقر إلى الحكمة السياسية، والتعلم من التجربة.

ومحصلة الخبرة والعزم تلك تمثلت في قراره بشأن الدولة، لقد تعلم من دروس أجداده في التجربتين السابقتين، ومن التعامل مع مختلف القوى، أن تحدي العالم لن يكون في مصلحته. وأن الخيار الأفضل هو دولة تهتم بحدودها، بلا أطماع توسعية، ولا ادعاءات زعامة.

لكن هذا الصعود ارتكز على قاعدة شعبية وعقيدية هامة، هي الحركة السلفية الوهابية.

وليس هذا فقط. هناك أيضا النفط.

٦

اكتشاف النفط في السنة التالية مباشرة لإعلان المملكة العربية السعودية يعني أن الدولة الناشئة ستكون أرض ثروة، مطمعا في كل الأحوال، ليس من جيرانها في المقام الأول، إنما من القوى الكبرى أيضا، وهي مطمع أكبر إن أعطت الآخرين مبررا بسلوك توسعي. كما أن القوى العظمى لها مصالح كبرى في مناطق أخرى من جزيرة العرب، تقتضي الحكمة السياسية أخذها في الاعتبار. كل هذا رسخ نبذ الرغبة التوسعية في الدولة الجديدة.

ومن الناحية المقابلة أعطى النفط وقودا دعائيا للوحدويين، لكي يغروا الجماهير. ففي الجزيرة العربية – برأيهم – ثروة يملكها مواطنو الإمبراطورية العربية المزمعة ويجب أن يتقاسمها الجميع. وهي فكرة لا تزال حتى الآن في “لا وعي” كثير من السياسيين، حتى وإن غابت عن خطابهم الواعي.

اجتمعت هذه العوامل وأدت إلى صراع جديد من صراعات الهوية العربية. والصراع خلق تبعات. وأدى إلى تحالفات واتجاهات.

كون هذا الصراع حدث والسعودية لا تزال على بعد عقود قليلة من إعلانها، لم يكن أمامها إلا التحصن بالقوى السلفية، أو التسليم بالزعامة الناصرية. لم يكن أمامها إلا التحصن بالشق الإسلامي من هويتها، أو مواكبة الموجة العروبية. وحصل الشقاق المحتوم. الذي دفعنا جميعا ثمنه. ولم تستفد منه إلا قوى متطرفة، تزداد تطرفا. وتلعب على كل الحبال.

٧

في حديثنا عن الهويات السابقة كنا نتحدث عن التاريخ وقد رأينا المصائر. أما في حديثنا عن صراع الهويات هذا فنحن نتحدث عن ما لا نزال نعيشه، عن الأحداث والتبعات التي لا تزال تحيط بنا. رأينا من نتائجها ما رأينا، لكن لا تزال أمامنا الفرصة للتغيير.

تُتهم الهويات المحلية بالعداء للهوية الجامعة. وفي هذا مغالطة كبيرة. الهويات المحلية تعادي الهويات الجامعة حين تريد أن تفرض سيطرتها عليها، هذا ما حدث في عهد الإمبراطورية الإسلامية. والهويات المحلية تتحول إلى مصدر شقاق حين تحاول أن تفرض نفسها متحدثة باسم هوية جامعة، هذا ما حدث في عهد “الإمبراطورية العروبية” المتخيلة.

 لقد حققت الهويات المتفردة نجاحات وعلاقات أفضل مع جيرانها، مصر المصرية، ولبنان اللبناني، كانا أكثر سماحة وانفتاحا من مرادفيهما العروبيين.

لنترك هذا إلى المقال القادم، والأخير، من هذه السلسلة.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

%d