مقالات هتعجبك

حروب الهوية العربي: ٥- الأئمة من نسل الحسين وكسرى

هل أثرت اليهودية في التشيع فعلا؟ فماذا أثر في السنة؟ وكيف رسمت التحالفات الجديدة مصير الهوية العربية في قيادة الدولة الإسلامية

١

ترسخ الحلف السياسي الحسيني الفارسي بزواج “الإمام الثالث” حفيد النبي من زنان شاه بنت يزدجرد آخر أكاسرة الفرس.

من هذه النقطة صاعدا سيكون التشيع المدعوم فارسيا مأموما بأئمة من نسل النبي محمد، نعم، ولكن بشرط أن يكونوا من نسل كسرى يزدجرد أيضا. من أحفاد فاطمة، نعم، ولكن بشرط أن يكونوا من أحفاد زنان شهر. شرط “الفاطمية” وحده لا يكفي. أبناء الحسن، الإمام الثاني، والابن الأكبر لعلي وفاطمة غائبون تماما عن النسل.

والسبب السياسي للاستبعاد واضح. أن الإمام الثاني – والمفترض أنه حسب الرأي الشيعي معصوم في التبليغ – ارتضى الصلح، وسحب في عام الجماعة الشرعية من التمرد على بني أمية.

٢

لم تكن النخبة في الدولة الإسلامية الناشئة غافلة عن الخلاف الاختلاف بين الروم والفرس. هذا يشبه في زماننا ما نعلمه من اختلاف في نظم الحكم بين الكتلة الغربية والشرقية مثلا. في الصراع الحسيني الأموي كانت الكتلة الشرقية، فارس، داعمة الحسين، والكتلة الغربية، الشام، داعمة لبني أمية، دعما شعبيا، ينعكس في السياسة والعسكرية، ودعما ثقافيا أيضا.

هنا يجب أن ننظر إلى الحالة الدينية في الشام وفارس لنفهم الفارق بين حال الدين الإبراهيمي في البلدين. أي مطلع على كتب تفسير القرآن يعرف مدى أهمية الكتاب اليهودي المقدس بالنسبة للمسلمين. هذا كتاب تاريخ الأنبياء وسيرهم وحكمتهم.

من يهود الشام خرج المسيح، ونشأ دين جديد اسمه المسيحية، تبنته الإمبراطورية الرومانية قبل ظهور الإسلام بحوالي ثلاثة قرون، وترجمت كتابه المقدس، الذي يحوي أيضا كتاب اليهود المقدس، إلى اللغة اللاتينية، ونشرته في حواضرها، فتناوله أبناؤها وضخوا فيه من ثقافتهم، وفسروه وأوّلوه وسيّسوه بما يعرفون.

بقي أهم ما في الدين المسيحي سياسيا هو الفصل بين ما لقيصر وما لله. نعم نعلم أن الكنيسة تغولت، لكن هذا نفوذ رجال الدين،  أما شخص الحاكم فقد كان ملكا دنيويا، يصارع رجال الدين ويساومهم. وعلى هذا النمط تطور الدين السياسي السني الناشئ في الشام. ملك دنيوي ورجال دين ذوو نفوذ.

حال الدين الإبراهيمي في فارس كان مختلفا تماما. يهود الأسر البابلي ظلوا بعيدين عن التأثير المسيحي، ومتأثرين بالتشريعات الحمورابية وبقصص سرغون (الأمير الذي وضع صغيرا في سلة في نهر) وبحية جلجامش التي سرقت منه الخلود. أبناء الأسر البابلي يعتقدون أن الرب أسقط مملكة أورشليم، وشردهم في الأرض، لأنها فصلت بين الدين والدولة، لأنها رفضت حكم الله في أن يجمع القضاة والأنبياء من بني لاوي، أبناء هارون أخي موسى، بين الحكم والنبوة كليهما.

بمعنى آخر، ظل يهود فارس يعتقدون في جمع الأنبياء والقضاة بين النبوة والحكم، أن هذا حكم الله. ليس هذا فحسب، بل يعتقدون أن هؤلاء الأنبياء والقضاة يجب أن يكونوا من أبناء هارون اللاوي.

كلمة نبي في الإسلام أخذت معنى محددا، لكنها عند اليهود مختلفة، فهي تعني “المنبئ”، سواء بوحي من الله، أو بسبب دراسته وعلمه. المبلغ عن الله.

وبسبب هذا التباين بين الاستخدام اليهودي والإسلامي، اختار التشيع الإسلامي الناشئ في فارس كلمة “الإمام”، المعصوم في التبليغ.، والتي في وصفها تعني تماما ما كان اليهود يطلقون عليه النبي. وكانت الخطوة التالية في التشيع الحسيني الفارسي هي وجوب أن يجمع هذا الإمام طالما كان موجودا بين النبوة والحكم. ثم كما ينتظر اليهود المساياه (المسيح) ليخلصهم، سينتظر الشيعة الإمام الغائب ليخلصهم.

٣

لا يتوقف التأثير عند هذا الحد. فعلي بن أبي طالب يحل في الأثر الإسلامي محل هارون، هو من النبي بمنزلة هارون من موسى. هل كان هذا مجازا يدل على القرب والنصرة؟ في التشيع هو أكثر حرفية من ذلك. ومن جذره تتفرع أحكام أخرى في السياسة ومن يتولى الحكم.

كتب التشيع تروي أيضا أن جِبْرِيل هو الذي سمى “الحسن” و”الحسين”. خمّن على اسم من؟

نعم، على اسمي ابني هارون، شبر وشبير. والحكاية المروية فيها حوار شيق بين النبي وجبريل، حين طلب الملاك من النبي أن يسمي الابن الأول شبرًا ذكره النبي بأن لسانه عربي، فترجم الملاك الاسم إلى الحسن، ثم تكرر نفس الحوار مع شبير، والترجمة الحسين.

٤

بهذا التأصيل السياسي لعلي في مقام هارون، وللحسين في مقام شبير. وبالتزاوج السياسي بين شبير/الحسين، وبنت كسرى، ضمن الفرس دماء فارسية في الأئمة.

لكن الأمة نفسها ضاق عليها الحكم بدل الرحبة. إن كان بنو إسرائيل وهم مجموعة أسباط من قبيلة واحدة لم يستطيعوا تقبل هذا واتخذوا لهم ملكا دنيويا. فما بالك بأمة أسقطت في عشرين سنة ملك كسرى وكثيرا من ملك بيزنطة! هل تقبل أن تكون الإمامة والحكم كلاهما في نسل شخص واحد هو الحسين بن علي، زوج شاه زنان بنت كسرى؟

حتى العباسيون الهاشميون وجدوا أنفسهم خارج خيار التشيع السياسي، الذي صار في الحقيقة حسينيا كسرويا، لا فاطميا، ولا علويا، ولا حتى هاشميا، فضلا عن أن يكون لقريش أو للعرب مكان في موقع القيادة منه.

لذلك أن نرى الدولة العباسية التي نشأت في أحضان الثورة الشيعية وتحت لوائها، وكان من أبرز قادتها الفارسي أبو مسلم الخراساني، لم تجد بدا حين وصلت إلى الحكم من أن تكون سنية سياسيا، ملك دنيوي ونفوذ لرجال الدين، وأن تواجه هي نفسها الحلف السياسي الحسيني الكسراوي. الذي يريد أن ينزع الملك منها ويضعه حيث ”يلزم“ أن يكون، في  الأئمة من نسل الحسين/شبير، وزوجته زنان شاه بنت كسرى يزدجرد.

وكاد هذا يحدث بالفعل في عهد الخليفة المأمون، حين عين الإمام الرضا، الإمام الثامن لدى الشيعة، وليا للعهد، قبل أن يموت في ظروف غامضة. يعود الخليفة المأمون بعدها إلى بغداد، عاصمة العباسيين التي ظل ست سنوات من حكمه مرفوضا فيها، يحكم الخلافة من مرو في خراسان، مدعوما ومحميا بمناصريه من الفرس، قوم أمه الفارسية مراجل.

٥

والحاصل أن العباسيين أسقطوا الأمويين بدعم فارسي كما أشرت سابقا. وبالتالي كان النفوذ الفارسي في الدولة العباسية قويا ومتصاعدا. والحقيقة أنه ما من أمة ساهمت في الحضارة الإسلامية علما وفنونا وأدبا بل وفقها كما ساهم الفرس. وكان الأثر السياسي موازيا في القوة والنفوذ لهذا الأثر الثقافي. لن يتسع المقال للتفصيل، لكن يهمنا الإشارة إلى أن الأمور وصلت حد المواجهة في عهد الخليفة هارون الرشيد، الذي فتك بأقرب مساعديه من الفرس في ما يعرف بمحنة البرامكة.

لكن الرشيد، رغم ذلك، أدرك أن الصراع بين الفرس والعرب لم ينته. وأنه وصل إلى بيته. في صورة صراع ينتظر غيابه بين ابنيه، الأمين من زوجته زبيدة العربية مدعوما بالعرب، والمأمون من جاريته الفارسية مراجل، مدعوما بالفرس.

وقع هارون الرشيد عقدا بين ابنيه يحدد السلطة، قيل إنه علقه على أستار الكعبة تعظيما له، لكن حتى هذا العقد والعهد لم يحل دون الصدام. الأمين والمأمون. ولكن أيضا العرب والفرس.

٦

في خلال السنوات الست التي أعقبت انتصار المأمون على الأمين اتخذ إجراءات غير مسبوقة. طرح راية العباسيين السوداء واستخدم راية العلويين الخضراء. منح ولاية العهد للإمام الثامن من أئمة الشيعة الحسينية الكسروية، الإمام الرضا. هذه خطوة في ظاهرها تعني سحب الخلافة من نسل بني العباس ومنحها لخصومهم التقليديين من الحسينيين الكسرويين. ونزعها من النسب العربي ومنحها لنسب شبيه له، خليط عربي فارسي. وذلك كله في إطار صراع يدعمه فيه الفرس ضد العرب.

غضب العرب في بغداد عاصمة الخلافة على المأمون، معتبرينه مرتميا في أحضان الفرس، وبالفعل ظل المأمون ست سنوات كاملة منذ بيعته يحكم من مرو في خراسان. ولم يستطع العودة إلى بغداد إلا بعد سلسلة من الأحداث. شهدت موت الإمام الرضا، وموت قائده الأقرب طاهر بن الحسين، وكلاهما في ظروف توحي بأن الموت كان حادثا مدبرا. كما أن المأمون أمر أيضا بالعودة إلى راية العباسيين السوداء.

لكن في التاريخ، من الصعب جدا أن تسير في طريق ثم تطلب فرصة أخرى. فكل فعل، حتى لو تراجعت عنه، يتسبب في فعل آخر. والفعل الآخر كان في عهد خليفة المأمون، المعتصم، الذي ضج من الخلاف الفارسي العربي الذي لا ينتهي، فعزم على الاستعانة بطرف ثالث يقلل اعتماده على الطرفين المتخاصمين.

لقد انهزمت الهوية العربية لكن لم تنتصر الفارسية، بل كان الكاسب الوحيد طرفا ثالثا تماما. تعلم في صراع الهويات درسا لم يتعلمه الفرس أبدا إلى يومنا الحالي.

ملحوظة: المعتصم ابن هارون الرشيد من جارية تركية اسمه ماردة..

إلى المقال القادم في حروب الهويات العربية.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

%d