مقالات هتعجبك

حروب الهوية العربية: ٤ – تشيع العرب والفرس

الصراع الشيعي في بداية الإسلام كان في أصله حربا من حروب الهوية. لولا التقديس الذي أحاط به السنة تناول حياة الصحابة لكان تقييمنا لأبطاله مختلفا

أحجار الكوفة الأولى أتت من قصور الحيرة الباهية، ومنها انطلق جيش نهاوند مسقطا ما تبقى من مقاومة الفرس بعد القادسية والمدائن. كان مقدرا لأول حاضرة تنشأ في دولة الإسلام أن تكون ذات شأن، وقد كانت، لكن على حساب تراجع الحيرة بعد مجد، وأفول عاصمة المناذرة بعد إشراق.

موقع الكوفة بين المدائن عاصمة الفرس، وبين الحيرة عاصمة حلفائهم العرب، كان لسانا أغاظت به الإمبراطورية الإسلامية الناشئة إمبراطورية الساسانيين الفرس العريقة.

من ها هنا بدأت لكي أقول إن صراع الهويات لم يكن في شقه الشرقي صراعا عربيا فارسيا فحسب. بل كان أيضا صراعا عربيا عربيا، بين إمبراطورية ناشئة تحمل قريش لواءها، ومجد عربي آفل، حمل لواءه المناذرة، في جزء من العراق وجزء من ساحل الخليج، والحميريون في اليمن. الحضارتان العربيتان كانتا تحت سيطرة الفرس، إما بالحكم المباشر أو بالوكالة.

واسمحوا لي أن أقفز قفزة بسيطة، سريعة، إلى وقتنا الحالي، لكي أدعوكم إلى مقارنة مناطق النفوذ تلك، بمناطق النفوذ السياسي الإيراني حاليا.

سلوك أهل الحاضرة الواعدة، الكوفة، كان سلوكا محيرا. فتلك مدينة ناقمة منذ إنشائها في عهد عمر بن الخطاب. لا قبلوا واليه سعدا بن أبي وقاص، ولا عمارا بن ياسر ولا أبا موسى الأشعري. كما لم يقبلوا ولاة عثمان، عقبة بن أبي معيط ولا سعيدا بن العاص. حتى حين صارت الكوفة عاصمة الخلافة تحت حكم علي خرجت طائفة منها على علي نفسه. وكلهم من حلفائه القدامى، بدءا بساكني الكوفة الأقدمين، طلحة بن عبيد الله والزبير ابن العوام اللذين قادا جيشا في البصرة، وصولا إلى الخوارج الذين شنوا حربا من حروراء.

الخوراج أنفسهم هم من تزعموا النقمة في عهد عثمان بوصفهم القرائين، رعاة الدين والقرآن. لكنهم لم يلبثوا حين ارتضى علي التحكيم للم شمل الامبراطورية الناشئة بعد مقتل عثمان أن خرجوا عليه أيضا.

إلى جانب الأسباب الاقتصادية التي جعلت من الكوفة محلا لمراكز القوى السياسية والاقتصادية، لا أرى سببا يفسر نقمة الكوفة أقوى من كونها في قلب أرض الفرس والمناذرة، في قلب أرض النقمة على دولة “قريش” الإسلامية. قد يقول قائل، وفيم تختلف عن الشام، فهذه أيضا كانت أرضا للبيزنطيين؟

يختلف غزو العرب للإمبراطورية الساسانية اختلافا جذريا عن غزوهم لإمبراطورية الروم البيزنطيين. في حالة الفرس كانت تلك بلادهم، ومنشأ امبراطورية الساسانيين وقلبها. الجنود المدافعون عنها من أبناء فارس نفسها، معظم من بقي منهم على قيد الحياة ظل على أرضه، وثقافتهم بقيت.

أما في حالة الدول التي غزاها العرب من مستعمرات امبراطورية الروم البيزنطيين، في مصر والشام، فلقد كانت مجرد دول محتلة، أطراف للإمبراطورية. استبدلت بجيوش الإمبراطوية المحتلة السابقة جيوش إمبراطورية جديدة. وبثقافة حكم الإمبراطورية السابقة ثقافة حكم جديدة. وبدواوين حكم الإمبراطورية السابقة دواوين حكم جديدة. وبلغة أجنبية تستخدمها تلك الدواوين لغة أجنبية جديدة. الجيوش المهزومة قتل منها من قتل، وفرت البقية إلى عمق الأراضي الباقية، وهكذا.

ربما يبرر هذا بقاء الفرس على اللغة الفارسية، رغم “طول الباع” في الإسلام. بينما تحولت “مستعمرات بيزنطة” إلى اللغة العربية بشكل أسرع. لقد كانت اللغة بالنسبة للفرس إحدى جبهات الحرب مع اللواء القرشي.

سينمات الكوفة تعرض فيلما آخر

والكوفة على ذلك الوضع كانت تجسيدا مبكرا لحروب الهوية التي نتناولها في هذه المقالات. كانت ملتقى السيوف الحائرة، منتصرة أو مهزومة. السيوف التي – في الحقيقة – لا تملك عقيدة سياسية واضحة تقاتل في ظلها. لقد اتسعت الفتوحات الإسلامية بإيقاع أسرع كثيرا من إيقاع ترسيخ الهوية “السياسية” لدولة الإسلام. هل هي دولة قرشية القيادة، عربية القيادة، أممية القيادة؟

النسخة الشيعية من الإسلام، كما نعرفها حاليا، كانت أفضل صفقة يستطيع الفرس والمناذرة (الحيرة) أن يحصلوا عليها. رفض الإسلام لم يكن مطروحا على الطاولة، أليس كذلك؟ لكن من الممكن لهما قبول نسخة سياسية منه تعادي أبا بكر وعمر وعثمان. وتعادي عائشة وطلحة والزبير. وتعادي الأمويين ودولتهم. ثم تعود فتنقلب حتى على بني العباس الهاشميين.

وفي المحصلة لا تترك من الإسلام السياسي إلا دائرة ضيقة من علي ونسله. والولاء لهذه الدائرة يمكن تبريره بأنه ولاء للإسلام ولآل البيت، دون العرب ودون قريش. وهذا يحل جزءا كبيرا من مشكلة الهوية، ويحفظ ماء وجه الكاتمين حنقهم. وفي نفس الوقت يعطي مبررا لاستمرار القلاقل داخل الإمبراطورية الجديدة.

وهو أسلوب لا واع للتعبير عن الهوية، وعن الألم مما ألم بهم.

لا بد من التذكير هنا أنني أتحدث عن النسق التاريخي، ولا أتعرض للجدل الديني. أريد أن أقول إنهم تبنوا نسخة سياسية من الإسلام تقوض البعد السياسي للإمبراطورية القائمة وقتها وتهدم أعمدتها. وتدعو لإعادة كتابة فيلم الإمبراطورية الإسلامية لكي يلائم الجمهور الفارسي، وحلفاءه من العرب. بحيث يختفي دور أبي بكر قامع المرتدين العرب الرافضين البيعة لخلف النبي. ويختفي دور عمر قاهر فارس، ومؤسس الإمبراطورية. ويختفي دور عثمان ممول أول جيش يقاتل البيزنطيين.

ولنبدأ فيلما إسلاميا جديدا، بسيناريو جديد، سيكون فيلما أفضل، اطمئنوا! سنسند دور البطولة فيه إلى علي بن أبي طالب. الناقم على أبي بكر وعمر بدعوى أنهما استلبا الخلافة منه. وحامي قتلة عثمان في جيشه. وقائد الجيش الذي قتل طلحة والزبير وأمطر هودج زوجة النبي بالسهام.

عليه السلام.

المشكلة الوحيدة أن سينما الحياة لم تعرض هذا الفيلم أبدا. بل حين حاولت أن تسند دور البطولة لعلي لم يستطع، وهو خليفة، إثبات حنكة سياسية. بل لم يستطع حتى الحفاظ على وحدة جيشه. لقد آثر أن يقاتل معاوية وطلحة والزبير، على أن يسلم قتلة عثمان. وفي الأخير خرج عليه قتلة عثمان أنفسهم، بعد أن دارت الأيام.

عليه السلام.

ربما لهذا السبب بالذات يحتار المرء إذ يسأل نفسه عن هوية جيش علي بن أبي طالب وحركته. هل كان جيش علي من الناحية التاريخية والسياسية شيعيا، على الصورة التي نرى عليها التشيع السياسي بقيادة إيران حاليا؟

لا نستطيع أن نقول ذلك. فمن بين جيشه الخوارج. وهؤلاء يعتقدون أن الخلافة لا يجب أن تكون حتما في بني هاشم، ولا قريش، بل أممية في المسلمين عامة. وحين نتقصى أصل الدعوة قد نردها إلى منهج قرآني، كونهم كانوا من القرائين. ولكن يمكن رده إلى نسب قبلي عربي ينافس قريشا.

بل إن قائد الجيش نفسه، عليا بن أبي طالب، رغم اعتراضه على استبعاده من الخلافة، لم يكن متشددا في موضوع خلافة بني هاشم كما تشدد الشيعة من بعده. فقد شارك في الشورى بعد عمر على عكس نصيحة من نصحه بـ “مقاطعتها” كأداة احتجاجية. كما وافق على التحكيم مع معاوية، على عكس مشورة بعض من أنصاره، أبرزهم اليمني مالك بن حارث الأشتر. لو لم يكن يعتقد في نفسه أنه مجرد ساع إلى الخلافة، لو لم يكن يعترف بأن للآخرين وجهات نظر، لما ارتضى التحكيم من حيث المبدأ. ولما ارتضى ابنه الأكبر الحسن، الإمام الثاني لدى الشيعة، الصلح.

من أجل هذا أعتقد أن التاريخ كما يرويه الحفاظ، محاولة بحثهم عن الأدلة الشرعية محركا للأحداث، وحاكما لروايتها، تاريخ مضلل ومؤذ.  لأنه أدى إلى تبلور السياسة بعيدا عن عالمها، من حيث إنه صراع بين أفكار ومصالح، وحصره في أشخاص، وفي البحث عن الأدلة على صلاح ”دين“ هؤلاء الأشخاص، وليس قدرتهم على حسن السياسة وتحقيق المنفعة العامة. وتوجهت اللعنات إلى من يحاول أن يقرأ التاريخ كما هو، كظاهرة سياسية، وبالتالي يراكم خبرتنا فيها. ضحالة السلوك السياسي في هذه المنطقة، واجترار الصراعات، مرده هذه الطريقة الضيقة في التفكير التي كان غرضها الأول كبح أفكار القارئ وتوجيهها بعيدا عن اقتراف ”جريمة“ الحكم على القادة من حيث قدراتهم السياسية، وليس تقواهم.

صراع الهوية الفارسي القرشي ذاك، واستفادة الحركة الشيعية منه، كان واضحا لمن ينظر إلى التاريخ الإسلامي من خارج تحزباته، إلى الدرجة التي جعلت بعض المؤرخين الأجانب يدعون أن عليا لم يكن من قريش أساسا، بل كان قائدا من قادة المناذرة في الحيرة. وأن معاوية كان بيزنطيا. وأنا لا أورد هذا الخبر تصديقا له، بل فقط لأشير إلى عظم الوجود الفارسي في حركة المعارضة الإسلامية الكبرى، الوجود الذي حير مؤرخين إلى درجة أن يذهبوا إلى هذا الحد لكي يفسروه.

وكما استفادت منه المعارضة الشيعية استفادت منه السلطة السنية أيضا. إذ تحول الصراع إلى صراع حق وباطل. وهذا أسهل كثيرا للمتخاصمين، لكن أثره كارثي على عموم الناس. وانتهينا إلى منطقة من العالم كلها سنية في السلطة شيعية في المعارضة.

في ظل بني العباس

نجحت ”الثورة“ التي استمرت ضد بني أمية أكثر من مئة عام. وتولى الهاشميون من بني العباس الحكم. فهل أخمد هذا حركة الهوية الفارسية المستظلة بالتشيع؟ أبدا.

لكن بقيام الدولة العباسية الهاشمية قوي العنصر الفارسي في بطانة الحكم، انعكاسا لدوره الأساسي في الثورة. وتعاظم الدور الفارسي أدى إلى نتيجتين هامتين. أولاهما أن خلفاء بني العباس أنفسهم صاروهم هم أنفسهم  يخشون النفوذ الفارسي فاستزادوا من العنصر التركي في العسكر، وثانيهما ازدياد الجفاء بين بني العباس وعرب الحجاز (حتى شيعة نسل علي منهم)، وأدى ذلك إلى ثورتين قادهما حفيدان من أحفاد علي.

بعد أن أخمد العباسيون الثورتين عاقبوا الحجاز بحرمانه من الوفرة التي كانت على أيام الأمويين. وعلى هذا عاش الحجاز منذ القرن الثالث الهجري في ضيق. يرتاب فيه الحكام. وتخشى من قوته المعنوية الإمبراطوريات. ولم يقتصر الوضع على هذا، بل توالت عليه هجمات القرامطة، إلى الدرجة التي تمكنوا فيها من الاستيلاء على الحجر الأسود.

من تلك اللحظة وحتى وفاة الإمبراطورية الإمبراطورية الاسلامية انهزمت الهوية العربية في الجانب السياسي. وبقي فقط الحرف العربي في فارس القديمة ثم في دولة الروم بعد صعود سلالة العثمانيين إلى حكمها. بالإضافة إلى اللغة العربية في الشام ومصر وشمال إفريقيا.

لكن هذا لن يمنع حرب الهويات القومية. سيعطيها فقط أشكالا مختلفة. على الجانب “السني” من حرب الهويات تلك سنرى ماذا حدث.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

%d bloggers like this: