حروب الهوية العربية: ٣- ثغرة في نواة الدولة
ليست هناك آية في القرآن تأمر النبي بأن يكون لديه مجلس شورى مكون من عدد كذا من الأفراد. بل هو ترتيب سياسي. نظر النبي حوله فكان الملأ من قريش هو التنظيم الإداري السياسي الناجح في ما يعرفه. اتخذ من أصحابه عشرة خصهم بأنهم “المبشرون بالجنة”، واستقر في وعي الجماعة المسلمة أنهم أهل المشورة والقيادة فيها. حين توفي النبي بايعوا واحدا منهم، وقبل أن يموت الخليفة الأول سمى واحدا منهم خليفة له، حين طعن الخليفة الثاني سمى كل من تبقى منهم ليتشاوروا ويختاروا من بينهم شخصا يخلفه، وحين حوصر الخليفة الثالث كانت رموز المعارضة ثلاثة منهم، وبعد أن قتل كان الخليفة الرابع منهم، ويتقاتل مع اثنين منهم. ومع ثالث يطالب بدم واحد منهم.
كان العشرة جميعا قرشيين. وموزعين أيضا على البطون. لم يكن منهم أنصاري واحد. وفي سقيفة بني ساعدة، برز صوت سعد بن عبادة كمعارض لتولي شخص من قريش القيادة في دولة ستدار من المدينة. ولكن بويع أبو بكر بن الصديق. أما بن عبادة فقتلته الجن وهو يبول واقفا مستندا على حائط في مغسله في حوران بأرض الشام.
سعد بن عبادة كان حاضرا في الاجتماع، ومعارضا لتضييق القيادة وحصرها في الهوية القرشية.
على بن أبي طالب كان غائبا عن الاجتماع، ومعارضا لكن لتوسيع الخلافة لتشمل كل قريش. يرى الأحق بها بني هاشم .
التقت حجتا المعارضتين على اختلافهما الواضح. ولقاؤهما الأول كان في الخطبة التي ألقاها علي بن أبي طالب على المهاجرين مطالبا بالخلافة. إذ ذكرهم بأنهم استبعدوا الأنصار بحجة أن المهاجرين من قريش أهل النبي وأقاربه. وأنه الآن يستخدم معهم نفس الحجة، فبنو هاشم أقرب إلى النبي من قريش.
وليس هنا مجال الخوض في تفاصيل ما حدث ولا الموقع المناسب لعرض وجهات النظر. إنما أوردته لأقول إن الصراع يكبر، حين تضيق الدائرة. ويصعب حين يتداخل. لأن الثغرة هنا تظهر في النواة، وتنفذ إلى العمق.
تحدثنا من قبل عن تمايز الهوية الإسلامية عن الهوية الإسرائيلية بتوجهها نحو العروبة. لكننا هنا نرى العرب يوضعون في اختبار ذاتي وضع فيه بنو إسرائيل من قبل. هل يفصلون بين الحكم والنبوة، بين السياسة والوحي، أم أن قربهما هو الحل.
في تاريخ بني إسرائيل أنيطت النبوة والحكم كلاهما بسبط اللاويين، سبط موسى وأخيه هارون. لكن بني إسرائيل ثاروا على هذا وطالبوا بملوك دنيويين.
في تاريخ الإسلام تعلم العرب الدرس فبدأوا بإناطة الحكم بغير سبط النبي. وكان هذا أسلم بحكم التجربة. لم يخش أحد سبطا ضعيفا كسبط بني تيم وسبط بني عدي. لكن الأمور تعقدت مع تولي سبط قوي هو سبط بني أمية مقاليد الحكم (وهو الأقرب من سابقيه إلى بني هاشم إذ إنهما من بني عبد مناف). ثم انفجرت حين برز بنو هاشم إلى واجهة الحكم. بعدها تحولت مطالبة الهاشميين بالحكم إلى مطالبة بحق ديني، بل كما سيظهر لاحقا بإمامة متسلسلة في النسل حتى آخر الزمان.
والغريب هنا أن المعارضة انطلقت جغرافيا من أرض الساسانيين الفرس. بينما تحصن بنو أمية في قلب أرض بيزنطة. بحيث صار من الصعب جدا صرف الطرف عن هذه الحقيقة الواضحة.
ليس هذا بدعا في السياسة، التي تخضع لقوى غير الإيمان المطلق. لكن أسوأ ما فعله المسلمون بتاريخ الإسلام كان “الطرمخة”، وخنق الكتابة. الكتابة تراكم المعرفة. تجعل الجيل التالي يقف على أكتاف سابقه. وخنق الكتابة يفعل العكس تماما. هو فعل أناني غرضه تمجيد الجيل الراهن وتضييع المستقبل. لا أعني بهذا أنه غرضه المتعمد، بل أعني نتيجته مهما حسنت النيات. فلا شك أن كثيرا ممن أرادوا أن يتجنبوا الخوض في “الفتن” ظنوا أنهم بهذا يئدونها. كأن الأمر الواقع يمكن أن يوأد. في حين أن الأمر الواقع يظل حقيقة، وما يوأد هو الرأس المفكر والعين التي لو أبصرت لرأت الخطر وتعلمت منه فلربما تتجنبه.
إننا نكتب ونقرأ هذا الكلام في القرن الواحد والعشرين. لكننا لا نستطيع حتى الآن أن نتناوله تناولا علميا. وليت الأمور تقف عند هذا الحد. بل إن غياب التناول العلمي يفتح الباب للتناول التحريضي. حتى صار عندنا تاريخان لا يمكن لعاقل أن يصدق أيا منهما جملة، ولا أن يثق في كل التفاصيل. فريقان حريصان على التمجيد الذاتي حرصهما على نفي الآخر. فريقان يريان الحياة في صورة أبيض وأسود. ويعتقد كل منهما أنه على “الحق”. مهما كانت الحكايات خيالية. من المناسب هنا أن نرى كيف أن الشيعة والسنة كليهما يستخدم يوتيوب لإبراز “خبل” حكايات الفريق الآخر. بينما المتفرج المحايد يرى في الروايات كلها ثغرات واضحة.
لقد نجح الفريقان في شيء واحد مشترك. أن يضمن كل منهما منع أتباعه من التفكير في الرواية السياسية وانتقادها. فأطالا أمد الخلاف واستفحل، ولم يلتق في المنتصف. وانشغل الطرفان منذ ذلك الزمن بتقويض أحدهما الآخر.
في ظل أزمة الشرعية، وهي أزمة ملازمة لكل دولة دينية من بعد النبي، بدءا من مانعي الزكاة عن خليفة النبي، صعودا. كان لا بد من مصدر للشرعية. مصدر يعطي ثقلا دينيا للحكام، يعوضهم عن غياب الوحي والنبوة، ثم غياب الصحابة.
في هذه الظروف نشأت طبقة من رجال الدين كاسبا وحيدا، صارت هي المالكة الحقيقية للشرعية، والمالكة الحقيقية لأفئدة الرعايا. هي التي تقرر إن كان الحاكم يسير على نهج الله أم لا. وتضع قواعد الولاء والخروج. كلمة منها تعني ثورة عليه، وكلمة معنى تعني رضوخا لحكمه.
لكنها في المقابل، وبالإضافة إلى هذا النفوذ، تحصل على مكاسب أخرى. أبرزها إبعاد الأفكار التي تقرر ما هو المستنكف بالدين والمستنكف عنه. فكان الخاسر الأكبر في هذا هو التفكير. وهو حرية النظر، وحرية الكتابة.
لقد حصل هذا في كل دولة إسلامية. فلا يمكن لحكم ديني، بعد النبي، أن يتجاوز سؤال الشرعية ذاك. كان يجب أن نتعلم الدرس مما رأينا من التاريخ وعلمنا. القرآن، كما قال علي بن أبي طالب لوفد التحكيم، حمال أوجه. فما بالك والسؤال هو الهوية. إن حازها المهاجرون تساءل الأنصار. وإن حازتها قريش تساءل بنو هاشم. وإن حازها بنو هاشم تساءل الخوارج. وإن حازها بنو أمية تساءل بنو العباس. وإن علا شأن الفرس تساءل العرب. دائرة لم تنته، ولم تحسم. ولن تحسم إلا بالفصل بين شرعية الحكم وبين الدين.
محصلة كل هذا ما نعيشه الآن. ليس على الصعيد المذهبي فقط. بل على الصعيد السياسي بوجه عام. غياب التفكير النقدي جعلنا متخوفين من التطوير، حريصين كل الحرص على الطلاء. وأطال أمد أساطير التاريخ السياسي، التي تعود جيلا بعد جيل لكي تقدم لنا ماضيا منمقا خادعا مغريا لأجيال جديدة من الحالمين بالسعي إلى إعادته.
ستكون خطوتنا القادمة الساسانيين الفرس والدعوة الشيعية، ودولة بني العباس. ثم نذهب إلى البيزنطيين الروم، ودولة بني عثمان، والإسلام السياسي السني. قبل أن نصل إلى القوميين العرب والإخوان المسلمين وحزب الله.
فابقوا معنا. هذا سرد ليس غرضه الماضي، لا تمجيدا ولا تحطيما، بل غرضه الأكبر المستقبل. لعلنا نقطع عادتنا ونلتفت إليه مرة.
أهلا وسهلا برأيك