مقالات هتعجبك

حروب الهوية العربية: ٢- قبلة ترضاها

بعض قصص الإسلام ننظر إليها اليوم وكأنها مجرد حكاية، أو مصدر للأحكام. بينما أثرها في فهم الصراع السياسي للدين أبعد من ذلك كثيرا

ألحقت أطراف جزيرة العرب نفسها بحضارات أخرى أو أُلحقت. الغساسنة مع الروم، والحيرة مع الفرس، واليمن تحت سيطرة المسيحيين واليهود والأحباش والفرس. لكن المنطقة الوسطى من الجزيرة، ولا سيما مكة، فكانت عربية الهوا. والماء.

حول ماء زمزم الذي يعتقدون أنه نشأ تحت قدمي جدهم إسماعيل، والبيت الحرام الذي يروون أنه بناه بسواعده، كانت مكة، إحدى قبيلتين عظيمتين حسب الوصف القرآني. كان العرب يتوقعون إن خاطب الله بشرا أن يخاطب رجلاً من إحداهما عظيما. لكن “أهم يقسمون رحمة ربك؟”. لقد اختار شابا يتيما من بني هاشم، له حظ من النسب، وليس له حظ من الثروة.

والثروة بلغت في قريش قبل الإسلام مبلغا ضخما، ربما لهذا سُميت قريشا، إذ كما القرش في البحر المحيط كانت قريش في محيطها الصحراوي.

صحراوية انتقلت إلى الحضر، لهذا سُميت قرية. من الاستقرار، ومن القري، إي الإكرام والضيافة والإجارة. الصحن الذي تجتمع عليه الأيدي في الطعام اسمه المقراة، من نفس الاشتقاق. فهي محل الاجتماع والإكرام.

ذلك أن مكة بكل معنى الكلمة كانت قبلة العرب. أقوام فرقتهم القبائل ورشقت في جسدهم العداوات ومزقتهم حروب داخلية، لكنهم في وسط كل هذا يتفقون على الحج إلى ذلك البيت الحرام الذي “ببكة مباركا”، في كنف قريش، يطوفون بلا سلاح، آمنين مبتهلين.

وليس الحج حدثا منفردا، بل نظام سياسي واجتماعي يسري على الجميع. يبدأ جغرافيا بسوق عكاظ في الطائف، وينتهي جغرافيا بالحج في مكة، يبدأ زمانيا من ذي القعدة، فذي الحجة فالمحرم، ثلاثة أشهر يتوسطها يوم الحج، لكي تتم رحلة الذهاب والعودة في أمان كامل يحرم فيه القتال، وتعظم فيه جريمة القتل وديته إن حدث. ثم لمن تعذرت زيارته البيت الحرام في موسم الحج فلديه فرصة أخرى للزيارة في رجب، كذا تتم عدة الأشهر الحرم أربعة، ثلث العام كاملا للتجارة والتواصل والسياحة وتبادل الأشعار والأفكار والإنتاج الثقافي، والتعبير عن المعتقدات الدينية التي تختلف في تفاصيلها لكنها تتفق على تعظيم البيت الحرام، الذي تحميه قريش، وتحمي هذا النظام المنسوج على مقاسه.

نظام كهذا ليس شيئا هينا، والقدرة على إقراره وضمان استمراره ليست شيئا هينا. 

شؤون الحج منظمة، هذا البطن يحمل مفاتيح الكعبة، وهذا البطن له السدانة والكهانة، وذلك البطن يتولى الرفادة والسقاية. وشؤون الأمن لها قوانينها الاجتماعية والسياسية الصارمة التي تختص بأعراف الإجارة. يحمل الراية بنو مخزوم، ومنهم في الجاهلية أبو الحكم/ أبو جهل عمرو بن هشام، وفي الجاهلية والإسلام ابنه عكرمة بن أبي جهل، وسيف الله المسلول خالد بن الوليد.

وبنو أمية لهم شؤون التجارة. وتنظيم قوافل التجارة الخارجية. ولذلك خرج منهم طبقة أبناء الأثرياء، المتعلمين الذين يجيدون القراءة والكتابة، ويسافرون إلى البلاد المجاورة.

أما بنو هاشم، فتركزت أعمالهم على الخدمة الدينية.

لكي تقر قريش هذا النظام وتضمن استمراره وتشيع ثقة الآخرين فيه طورت ماعرف باسم الملأ من قريش. وهو نظام أرستقراطي وظيفته توزيع المهام الإدارية على البطون المختلفة من قريش.

حين سمع النبي أحد الأنصار يسخر ممن قتلوا في بدر، ويقول إنهم مجرد رجال صلع، قال له: ”هؤلاء الملأ من قريش. لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك“. في إشارة إلى ما كانوا يتمتعون به من رجاحة عقل، وقدرات قيادية.

لكن الاعتراف بهذا اعتراف أيضا بعظم المهمة التي كانت على النبي لكي يتمايز. لكي يقول أنا مختلف. لكي يبرر للناس أن يلحقوا بدعوته وأن يتأملوا فيها واقعا جديدا لحياتهم، بشرط أن يكون هذا الواقع أفضل من وجهة نظرهم. بعبارة أخرى لكي يشكل ”هوية متمايزة“.

من الناحية السياسية أنشأ النبي نظام سياسيا موازيا لنظام الملأ من قريش. لكن معياره التقوى، وشعاره “العشرة المبشرون بالجنة”. شعار يتناسب مع جوهر الهوية الجديدة للدولة، أن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أنسابكم ولكن إلى قلوبكم ولا يناله إلا التقوى منكم. لكنه يظل في قريش، ومن بين بطونها، ليس فيه من الأنصار – وهم من هم – أحد. الخلفاء الراشدون الأربعة من العشرة المبشرين بالجنة، وأهل الشورى بعد وفاة عمر بن الخطاب من العشرة المبشرين بالجنة.

سنرى كيف تفاعلت الهوية العربية القرشية التقية مع التاريخ، ولكن في المقالات القادمة.

أما الآن فنبقى مع المهمة الأصعب في موضوع الهوية. ما الذي دار بعقل النبي العربي؟ ما مرجعيته؟ وما مرجعية العقيدة الاجتماعية التي يريد يرسخها؟

دين إبراهيم حنيفا؟ 

العرب والأحناف واليهود والمسيحيون جميعا على دين إبراهيم. والنبي مصدق لما بين يديه من الكتاب اليهودي والمسيحي، وفي نفس الوقت فإن محيطه العربي يفتتح عمله بقوله “باسمك اللهم” ويبتهل “لبيك اللهم لبيك”.

لا أتحدث هنا عن الإيمان والشرك. بل عن الهوية. إلى من ينتسب النبي؟ بلاش دي. إلى أي وجهة يتوجه. بني إسرائيل أم بني إسمائيل.

الجواب كان أسهل في مكة، فاستقبل بيت المقدس والكعبة بين يديه. لكن إن صلح هذا الجواب لأم القرى فكيف يصلح لمن حولها. النبي نفسه حين انتقل إلى ما حولها احتار، وتقلب وجهه في السماء والأرض. إذ كان عليه الآن أن يختار أحدهما. وقد اختار بيت المقدس.

بالنسبة لكثير منا في العصر الحالي فإن هذه حكاية تجاوزناها. لكن ضع نفسك في ذلك الزمن. وتفكر فيها. هذا نبي عربي، بقرآن عربي، في محيط عربي، لكنه يولي وجهه شطر إسرائيل وبنيه، ويعطي ظهره لقبلة العرب. من من العرب يسمع له؟ من من العرب مستعد لأن ينسى تبهلاته وتضرعاته وأمانيه ودعواته حول البيت الحرام؟ من منهم مستعد للتصالح مع فكرة أن ما أنفقه كان هباء، وما فاضت به دموعه كان غثاء؟ من منهم مستعد لأن يعيش ما تبقى من حياته مستغنيا عن البيت الحرام ومركزيته، فلا إليه يحج، ولا فيه يتاجر، ولا يتبادل الأشعار، بل عليه إن أراد التضرع أن يذهب إلى أرض الروم؟

الكارثة على الناحية الأخرى أن اليهود، الذين يشاطرهم قبلتهم، لا يعترفون بنبوته. بل يعيرون المسلمين بأنهم تابعون لهم، يصلون إلى قبلتهم. ولا سيما أن الصلاة نفسها شبيهة إلى حد كبير بالصلاة اليهودية التي وصفها القرآن في صلاة مريم، “يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين”. قنوت وركوع وسجود.

لو أن شخصا في زماننا الحالي دعا قومه إلى النظر إلى الخارج، والاستفادة مما يقدمه من نظم وأعراف سيتهمونه بالتغرب والفرنجة و”الانسحاق”، فما بالك بنبي من بني إسماعيل يترك بيته، ويصلي إلى بيت أبناء إسحق.

لقد اخترق قدس الأقداس في العرف العربي. وليس هذا نهاية المطاف. إذا بسرية للصحابي عبد الله بن جحش تخرق حرمة رجب، فتقتل عمرو بن الحضرمي معتمرا. ليضيف ذلك إلى لائحة الاتهامات للنبي وصحبه اتهاما جديدا، في مقدس جديد من مقدسات العرب. وليعطي وقودا إضافيا لمن أراد أن يشيع أن محمدا لا يعظم البيت الحرام، ويريد أن يصرف الناس عنه إلى قبلة بني إسرائيل. صحيح أن القرآن برر ما وقع من قتال أثناء السرية. لكن النبي نفسه لم يقبل المشاركة في الغنائم قبل نزول التبرير القرآني، فقد اعتقد كما اعتقد غيره من العرب أن السرية قد أتت فعلا مشينا. بل ودفع دية عمرو بن الحضرمي إلى ورثته في قريش.

بعد السرية بخمسة عشر يوما فقط يقطع القرآن الشك باليقين. يخبر المسلمين بداية أن نبيهم كان حائرا يتقلب بين رغبته في التوجه إلى البيت الحرام، وبين أحكام نبوته بالتوجه إلى قبلة الأنبياء من قبله. يخبرهم أن سؤال الهوية هذا كان مرئيا في الأعالي ”قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره.“ وجاء الأمر في منتصف صلاة، فلم ينتظر إلى التالية لكي يزف إلى المسلمين العرب بشرى إجابة حيرتهم، والاستجابة لهواهم وهويتهم، بل استدار في نفس الصلاة لكي يواجه البيت الحرام، ويعطي ظهره للبيت المقدس، استدار لكي يتوجه إلى حيث يتوجه بنو إسمائيل، ويخالف بني إسرائيل.

هذا التحول نفسه أثار تساؤلات، نعم، لكنها ممكنة الإجابة. ورغم أن القرآن وصف سائليها بالسفهاء، إلا أنه لم يصف التساؤلات نفسها بالسفيهة، بل خلدها بذكرها. ”سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها“. الأجابة القرآنية واضحة، أن لله المشرق والمغرب. والإجابة البشرية واضحة، هذه الهوية التي يسعى إليها النبي ويرضاها. لكي تتماشى مع غيرها من مفرادات الهوية التي أبقى عليها الإسلام، مثل يوم الجمعة، وكان اسمه في الجاهلية ”يوم العروبة“. وهي كلمة تجمع هنا معنيين، العروبة بمعنى الهوية، والعروبة بمعنى القدرة على الإعراب، أي الفصاحة والخطابة. ففي ذلك اليوم كان يجتمع العرب فيخطبون. وهكذا ظل عند المسلمين، يوما لخطبة ”الجمعة“. يوم مبارك، يسبق سبت اليهود، وأحد المسيحيين.

لن يفتح المسلمون العرب مكة، ويدخلوا بيت بني إسمائيل، إلا وقد طردوا بني إسرائيل من المدينة. وحسموا حرب الهوية الأولى. ليكون الإسلام دينا بلسان بني إسماعيل، يحمل لواءه الأول بنو إسماعيل، ويقدس كعبة بني إسماعيل.

وتلك لن تكون آخر حروب الهويات التي يواجهها العرب. خلال ثلاثة عشر عاما من وفاة النبي كانوا قد أسقطوا دولة الفرس الساسانيين في الشرق، وقطعوا أوصال الدولة البيزنطية في الغرب. وهذه هويات من الصعب محوها. حتى وإن دخلت في الإسلام.

لكن قبل أن نذهب إلى الغرب أو الشرق، يجب أن نمر سريعا على ثغرات الصراع في النواة القرشية، لأنها الثغرات التي سيتسلل منها صراع تلك الهويات الأخرى.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading