مقالات هتعجبك

حروب الهوية العربية: ١- بنو إسرائيل

بدا أن بني إسرائيل راكبو الأمواج، بينما بنو إسمائيل على خف الجمل، لا يحرزون مجدا ولا يمرون بمأساة، ولا الصراع معهم مهم، مفهم مجرد أميين لا يقرؤون الكتاب. انتظر

أقر الإسلام بالتاريخ الذي دونه اليهود من قبل عن أصول العرب. وحسب ذلك التاريخ فإن النبي إبراهيم، الحنيف، أبا الأنبياء، أنجب من امرأتين، أولاهما هاجر، وكانت جارية أهداها له عزيز مصر، والثانية سارة. وهي زوجته.

أنجبت هاجر أولا. أما سارة فتأخرت في الإنجاب، لكنها حين ولدت إسحاق لم ترد أن يزاحمه ابن الجارية. فطالبت إبراهيم أن يأخذها وابنها إسماعيل بعيدا.

لا ندري لماذا أخذ كل هذه المسافة، من فلسطين إلى مكة. ليس هذا مذكورا في التوراة. لكنه الرواية القرآنية العربية وهو الراسخ في الوعي العربي، وعي أبناء الجزيرة.

من هذه النقطة صار أبناء إبراهيم ونسله فرعين أساسيين، أبناء سارة، ومنهم أبناء حفيدها يعقوب أو إسرائيل، هؤلاء بنو إسرائيل الذين يعتبرون أنفسهم نسل الحرة، النسل الذي بشرت به الملائكة بمعجزة الميلاد بعد انقطاع الطمث.

الجزء الخاص بكونهم أبناء الحرة مهم جدا في هذا السياق، لأن بني إسرائيل كانوا في واقع الأمر مستعبدين في مصر قبل كتابة بعض التوراة، ومستعبدين في بابل أثناء كتابة الجزء الأكبر.

كان مهما إذا لهذا الفرع الطامح إلى التحرر من العبودية، وإلى إنشاء دولة، أن يصر على أصل نسبه الحر، في زمن من التاريخ كانت فيه الحرية والعبودية مفهومين أساسيين في تصنيف الناس والشعوب. ولا سيما عند البدو الرحل الذين يأنفون من أسر الاستقرار والمهن المرتبطة به. فما بالك حين يجتمع إلى هذا الأسر العبودية.

ومهم هذا أيضا وأبناء عمومتهم في قلب الجزيرة لم يستعبدوا لأحد، بل سكنوا تجمعات محمية بالصحراء، تجمعات أمية أعرابية في معظمها، لكنها لم تخل من الحضارة ولا سيما في مكة. حضارة أرسى دعائمها قُصي بن كلاب، ثم انطلق بها إلى العالمية حفيده محمد بن عبد الله. النبي الأمي العربي. خروجا على احتكار بني إسرائيل للنبوة، مع إقرار القرآن بأن الله جعلها فيهم.

نسب القرشيين إلى إسماعيل غير محفوظ على سبيل القطع. النبي أثبت نسبه إلى عدنان، لكنه أمر بالتوقف عن ما فوق عدنان. والعرب بوجه عام منقسمون إلى عدنان وقحطان. لكننا هنا لسنا بصدد تحقيق الروايات التاريخية والآراء المختلفة فيها. ما دام استقر في وعي العرب أنهم أبناء إسماعيل، فهذا ما يهمنا. تختلف كلمة إسمائيل عن كلمة إسرائيل في حرف واحد فقط. “اسمع – إيل” هو الذي سمعه الله. و”إسراء-إيل” هو الساري، الساير، السائر، إلى الله. على عادة الغات السامية في قلب الأحرف والاحتفاظ بالمعنى. سبحن الذي “أسرى” بعبده.

عبودية اليهود سمحت لهم بالمعيشة بين أكثر شعوب المنطقة تقدما واستقرارا وحضارة في تلك الفترة، مصر الفرعونية، ثم بابل، ثم لاحقا الرومان. فكانوا الأوفر حظا، على شقائهم ومآسيهم العديدة، في جمع خبرات مختلفة، الحرف من الفينيقيين والأشوريين، والزراعة والري والمعمار من المصريين، والقانون والتشريع من البابليين. وهذه التجارب منحت بني إسرائيل فرصة للازدهار، فصار لديهم شيئ آخر يتباهون به على أبناء عمومتهم من العرب، أنهم “أهل الكتاب”.

بدا في أوقات أن بني إسرائيل هم راكبو الأمواج، يصعدون ويهبطون. بينما بنو إسمائيل مستقرون يتحركون بإيقاع خف الجمل. لا يحرزون مجدا ولا يمرون بمأساة. وبالتالي لم يكن صراع الهوية مع أبناء عمومتهم مهما. فهم مجرد “أميون لا يقرؤون الكتاب”.

٢

مجد بني إسرائيل السياسي لم يستمر أكثر من سبعين سنة. انقسمت الدولة، ثم تحطمت، وعادوا إلى الأسر في بابل. لكن مجموعة منهم ذهبت لتعيش في كنف أبناء عمومتهم. ويساهموا في الحياة الثقافية هناك. الأثر الثقافي اليهودي شيء لا يمكن إنكاره، لقد أثروا ثقافيا في كل محل حلوا فيه قديما وحديثا. عدم الإنكار مهم لنا هنا بشكل خاص ونحن نتحدث عن الهويات في هذه المنطقة وصراعها.

كلمة المدينة التي أطلقت على يثرب مشتقة من كلمة “مدينتو” أي المكان المحكوم بالدين (الشريعة). هذا هو الإسهام اليهودي الأكبر في السياسة والثقافة السياسية. الشريعة التي لم تأت من برلمان روماني، ولا من ديمقراطية إغريقية، ولا من عقل أصحاب دماء إلهية، ولا من عرف قبلي، بل جاءت ماديا وحرفيا من إله السموات. تجلى بنفسه على الجبل ليعطيها لموسى مسجلة بعلم الوصول، والإيصال. والالتزام بها مراقب بالعلم الإلهي. والإحسان الإلهي. والعقاب الإلهي.

ثم هناك تنظيم سياسي منصوص عليه في الكتاب. عهد سلمه الله إلى نسل عمرام اللاوي (والد موسى وهارون) ليقودوا، روحيا وسياسيا. فيكون منهم الأنبياء.

لكن اليهود حرفوا “الكلم عن مواضعه”، وقالوا اجعل لنا ملكا. رفضوا أن يجمع بنو اللاوي (سبط اللاويين) بين الحكم والنبوة. طلبوا فصل سلطة الدولة عن سلطة رجال الدين. ونزل اللاويون على رغبتهم، فكان شاؤول أول الملوك. ثم كان المجد على يد الملك داود وابنه سليمان.

ليس هذا فحسب. بل من نسل داود هذا، سيخرج شاب ينتزع من اللاويين النبوة أيضا، شاب فقير كغيره من بني إسرائيل تحت حكم الرومان، منسوب إلى أمه. كان عيسى ابن مريم أوضح في فصل الدين عن الدولة. ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وكان أوضح في رفضه لسيطرة رجال الدين على الوحي، بل وسيطرة اليهود على الاختيار الإلهي بالنبوة.

كهنة من بني إسرائيل رأوْا في دعوة هذا الشاب اليهودي ضررا عظيما، أشد من ضرر الرومان أنفسهم، فقرروا أن يفعلوا معه من يتهمونه بادعاء النبوة في نسل إسرائيل، يكشفوا عنه غطاء القبيلة، ويعلنوا أنه مهرطق. وأنهم ليسوا مسؤولين عن الضرر الذي سيحدثه في الإمبراطورية، والترتيبات السياسية التي سيخل بها. وبالتالي قرر الحاكم الروماني أن يريح دماغه ويصلبه. مثله مثل رجلين مجرمين كانا سيصلبان معه في نفس اليوم.

لو نظرت إلى التاريخ الذي كتبه بنو إسرائيل عن أنفسهم لن تجد الصيغة التي أوردتها هنا. هذه صيغة ما كتب بعد أن تبنت الدولة الرومانية دعوته.

إذ دعوة الرجل الذي ظنوا أنهم قتلوه وحيدا معزولا فوق صليب خشبي امتدت امتدادا لم يخطر على بال أحد. في دراما تاريخية عظيمة يتغير المآل المتوقع. وتتحول الدعوة إلى ثورة تجتاح أكبر إمبراطوريات الدنيا، بشقيها، البيزنطي والروماني، من فلسطين إلى مصر إلى أوروبا.

ثورة هذا الرجل من بني إسرائيل لم تجتح فقط السياسة حتى وصلت إلى الحكم، إنما اجتاحت أيضا العلوم القديمة، فطارد منتسبون إلى دعوته علماء الإسكندرية، وهدموا ما استطاعوا من فنون الأقدمين أو خربوه.. وكان نصيب مصر من هذا كبيرا، لأن كتاب بني إسرائيل المقدس، دستور هذه الحركة، خَص بلد النبي موسى الأولى بنصيب وافر من اللعن والسب، وخص حضارتها بنصيب وافر من الذم والقدح. وسوف تساهم هذه الدعاية في اضمحلال الهوية المصرية في صراع الهويات لقرون قادمة.

هل كان انهيارا تاما ساحقا ماحقا لقبيلة إسرائيل؟ فسره كما تشاء. لكن الأكيد أن أثرا واحدا بقي لها ولم ينقطع أبدا. الأثر الثقافي. بدأه اللاويون بالعهد القديم، الذي بقي جزءا أساسيا، وركنا أكثر أهمية، حتى عند أتباع العهد الجديد. بقي العهد القديم ييتنقل من جيل إلى جيل، شرقا وغربا، حاملا نظرة للكون وللخلق وللتاريخ، ومشكلا لمصطلحاته، ومقسما البشر العاديين والعلماء والمفكرين حول محوره، لا يستطيع أحدهم أن يتجاهله، ولا تكاد تخرج نظرية في أي فن من فنون الحياة والمجتمع إلا وتبدي رأيها فيه وهو يبدي رأيه فيها.

لا بد أن نتوقف هنا ونذكر، أننا خرجنا من الدين اليهودي، نعم، لكننا لا نزال في بني إسرائيل. وفي إطار تأثيرهم الثقافي.

لقد أثر هذا الإرث الثقافي في العالمين. ومنهم أبناء عمومتهم العرب.

في البداية انتقل الحكم من اللاويين ولم تبق لهم إلا النبوة. ثم انتقلت النبوة من اللاويين إلى حفيد داود. ثم انتقلت النبوة من بني إسرائيل إلى نبي عربي من بني إسمائيل. جاء مصدقا ومتمما لرسالة بني إسرائيل.

لكن كان على “الهوية العربية” أن تخوض على يديه صراع الهوية الأول. وضد من. ضد بني إسرائيل أنفسهم. يقولون “ما من محبة إلا بعد عداوة”. لكن الروايات التاريخية تنبئنا بأن ما من عداوة أقسى من تلك التي بعد محبة، ولا من خصومة أشد من تلك التي تنشأ بين ذوي القربى. القرب يجعل الخصم في  متناول اليد الضاربة. والتشابه يجعل الحرص على التميز ينفذ إلى التفاصيل الدقيقة.

النبي العربي أنبأ من حوله بأنهم سيسيرون في أثر بني إسرائيل “حذو القذوة بالقذوة”. فكان الحرص أكبر على التمايز عنهم في كل قذوة. وهل يكون صراع الهويات إلا كذاك؟!

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

%d