مشروع البحر الأحمر .. الاقتصاد قاطرة الثقافة

مشروع البحر الأحمر. لكي تعرف كيف تفكر أمة انظر إلى الاتجاه الذي تشير إليه مشاريعها الاقتصادية. فماذا يخبرنا المشروع الذي أعلنت عنه السعودية عن توجه جيلها الجديد

قطار التاريخ الذي يمر أمام عينيك بين دفتي كتاب، له قاطرة. هي غالبا الاقتصاد. النشاط المهني الذي ينتج ثروة. ثم الفئات التي تستفيد من هذه الثروة والقيم التي تدافع عنها هذه الفئات لكي تحمي الثروة.

لو سارت القيم مع النشاط الإنتاجي باتساق، تزدهر المجتمعات. لو تعارضا، ينتكس النشاط.

النشاط الإنتاجي الذي حقق ثروة في زمن ما كان الزراعة. وفي المجتمعات الزراعية نشأت قيم تحمي الزراعة كتقديس الأنهار، واحترام الحكومة المركزية التي تحفظ الاستقرار. بهذه القيم ازدهرت الزراعة. وبازدهار الزراعة ازدهرت القيم. وهكذا. هذا شرط الازدهار.

النشاط الإنتاجي الذي حقق الثروة في زمن آخر كان الفروسية. غزو البلاد المجاورة والحصول على ثروتها. تواكب هذا مع مجموعة من المهارات والاختراعات. كمهارة ترويض الخيل. واختراع العجلة الحربية. وتقدست قيم جديدة تنصب كلها حول تفضيل القوة، وشملت تفضيل الرجال المحاربين.

أما في عصر الثورة الصناعية فقد نشأت قيم نعرفها الآن. ونظن أنها موجودة منذ بدء التاريخ. وليست كذلك. كقيمة احترام المواعيد. لأن الثورة الصناعية ربطت الوقت بكمية الإنتاج. كل ساعة تساوي ربحا.

تختلف القيم وتتنوع. لكن يبقى أن الاقتصاد هو القاطرة والمحك. وأنك حين تقدم على نشاط اقتصادي ما لا بد أن تحميه بقيم مجتمعية تصونه. لا يمكن أن تكون بلدا سياحيا وأنت تنشر كراهية الغرباء. لا يمكن. متعارضتان. لا يمكن أن تكون بلدا داعيا للاستثمار وأنت تنشد الحرب والتحريض. لن يأتي إليك أحد. لن يأمن على ماله.

لو أننا وعينا هذه الحقيقة لعرفنا لماذا تراجعت الجمهوريات العربية بينما تتقدم مجتمعات الخليج المستقرة. لو قلنا إن السبب هو الثروة النفطية لجافينا “القراءة الجيدة”. حيث إن العراق ثري جدا بثرواته. لكنه تراجع. وفنزويلا لا يعوزها النفط، لكن تعوزها الإدارة الجيدة. ولهذا تراجعت. ولبنان بلد سياحي كان مؤهلا لقدر كبير من الثروة. لكنه اختار الثورة.

بينما الإمارات قررت الانفتاح على الآخرين. وليس هذا قرارا منفردا. لا يمكن أن يكون. بل لا بد له من قيم تحميه. قيم ترحب بالآخرين، وترسل لهم إشارات سماحة. وتدعم الاستقرار، والرشاد القانوني الإجرائي. قيم تصر على حسن المعاملة، وكف الأذى، وتصر على القانون، فليكن المحافظ محافظا، كما تشاء، ولكن القانون يحمي من استؤمن ولبى الدعوة إلى القدوم. القانون فيصل بين الاثنين. بعد قليل تصير هذه القيم عقيدة اجتماعية. هذا المكان مسموح له بكذا وكذا. وذاك المكان مسموح له بكذا وكذا. اختر أن تضع قدميك حيث شئت. الأرض تسع الجميع. بهكذا عقيدة اجتماعية استطاعت الإمارات أن تنوع مصادر ثروتها الاقتصادية. القانون يسري على النشاط النفطي. والقانون يسري على النشاط الاستثماري. والقانون يسري على النشاط السياحي. والمجتمع يتعلم التنوع، واحترام الخصوصية. والخصوصية تتعلم الحدود بين سلوك الخصوصية والسلوك العام.

السعودية تعلن الآن عن مشروع سياحي كبير. هل تعتقدون أن مشروعا كهذا لا يحمل تغييرا ”فكريا“؟ بلى. لا بد. تغيير فكري سيدافع عنه أصحاب المصلحة فيه، ومن يتمنون ازدهاره. سيدافعون عن القيم التي تحميه. وهي بطبيعتها قيم السماحة مع الغرباء، والكرم والضيافة والإجارة. وهذا التنوع الاقتصادي سيرافقه بلا شك تنوع قانوني.

المجتمعات ”المحافظة“ في المنطقة العربية، التي قرأت وفهمت دور الاقتصاد، تبلي بلاء أحسن من تلك التي ادعت أنها “تقدمية”. لكنها لم تفهم نسق التغيير. المجتمعات ”المحافظة“ في المنطقة العربية تعطي مثلا أفضل في النظر إلى الذات، والتطوير، الذي سيصنع الأفكار.