هل قرأ السيسي قصة النبي موسى؟ أول سطرين
الرئيس السيسي حاول أن يبني جمهورية منسوبة إلى ٢٥ يناير، في محاولة من وجهة نظري للتملص من ضغط الأصوليين من أسباط الناصرية داخل دولة يوليو. هؤلاء الذين نجحوا في تعطيل تحديث فلسفة حكم الدولة، بداية من تعطيل السادات في ١٩٧٧، وانتهاء بإعلان رمزهم – سعد الدين الشاذلي – فرحه باغتياله في ١٩٨١، والتباهي بأن قاتله ينتمي إلى تيار المعارضة الذي يقوده.
مع هذين الطرفين، أسباط الناصرية الأصوليين، والأصوليين الإرهابيين الإسلاميين، جيشٌ من الكتاب والإعلاميين.
نفس التشكيلة وقفت ضد الخطوة الأولى في نضوج مصر الاقتصادي، التي حدثت في أواخر عهد الرئيس مبارك. وصولا إلى ٢٥ يناير وتخلي مبارك عن الحكم. فعطلت مرة أخرى تحديث فلسفة الاقتصاد في دولة يوليو. تحت شعار جذاب هو مكافحة التوريث. لكن في نفس الوقت تحت شعار مخف، هو العودة إلى ”الدولة التي نعرفها“، دولة كفالة المؤسسة العسكرية للشعب.
لكن الرئيس السيسي، ورغم أنه يحاول في جانب من حكمه تغيير هذا الوضع، لم يستطع أن يتملص من شرعية ٢٣ يوليو. واضطر لاحقا إلى إسقاط ٢٥ يناير تماما.
لماذا؟
لعله لم يدرك طبيعة الشبكة الإخوانية الجديدة. لم يدرك طبيعة التحالف الإخواني مع كل قوى الرفض الأخرى في المنطقة العربية. ولم يدرك أثر المصالح العملية في التحالف السياسي. أن للإخوان شبكة ممتدة في العالم كله، من أمريكا اللاتينية، إلى الأمريكتين، إلى أوروبا، وأستراليا، ثم إلى شرق آسيا في ماليزيا. هذه الشبكة صارت تمثل لشباب النشطاء والباحثين والكتاب متنفسا للعمل والنشر والتعبير عن أنفسهم. في المنطقة وفي العالم. ولا سيما أن جزءا من عمل هذه الشبكة هو مد الخيوط مع اليسار الأوروبي والليبراليين في أمريكا.
ليس هذا لأن الباحثين والنشطاء المشار إليهم أشرار بالطبيعة. أبدا. لننس العينة التي نراها من الرداحين والرداحات. هذه العينة هذا دورها. إنما لأن هذه طبيعة علاقات العمل السياسي في العالم كله. حتى في الدول الديمقراطية. العمل السياسي عبارة عن عدد لا نهائي من مجموعات المصالح.
هذا الإخفاق في فهم طبيعة العمل السياسي عبر عن نفسه في تعامله مع الإعلام المصري.
الرئيس السيسي، وهو الأول من رؤساء مصر الذي ترعرع في ظل عبد الناصر، معجب جدا بإعلام عبد الناصر، ويقول إنه كان محظوظا به. لم يكن لدى الرئيس السيسي إعلام عبد الناصر فلجأ إلى أقرب شيء له. أن يسيطر بنفسه، أو لنقل بمكتبه ومندوبيه وممثليه، على الإعلام.
الشخص الذي أطلق يده في الإعلام يفتح زراير القميص العلوية ويرتدي سلسلة ذهبية. صورة مطابقة لصورة ثري في أفلام المقاولات. على حد وصف صديق ”كأنك التقيت بزين العشماوي على جسم حاتم ذو الفقار“. لكن الأنكى من ذلك أنه غير معروف في الإعلام. ولا له سابقة خبرة وتجربة فيه تبرر هذا.
محصلة هذين العاملين، بداية من الفرصة التي يفتحها الإخوان للإعلاميين، وصولا إلى الفرص التي أغلقها مندوبو الرئيس، لا بد أن تكون في المآل الذي ذهبت إليه. أن من يقبل أن يعمل في ظل هذه الظروف هم من تمرسوا في العمل في ظروف شبيهة سياسيا، وفهموا ما تريده منهم دولة يوليو. وأنا هنا لا أنصب نفسي حكما على الإعلاميين. إنما أتحدث عن الظروف التي مر بها الإعلاميون في مصر.
بل إن الأمر أسوأ من ذلك، لأنه حتى من تمتع بقدر من الاستقلالية في أواخر عهد الرئيس مبارك، رأى أن ما يحدث تحت مستوى القبول.
والخلاصة. رجل الشارع العادي يرى من نجوم الإعلام من تعود عليهم في عهد مبارك. ويرى على الطرف الآخر نفس الذين عارضوا مبارك. يرى في الإعلام المصري نفس نجوم مرحلة مبارك. ويرى على الطرف الآخر أنه هو من يخرج وجوها جديدة.
لا يهم ماذا يقول هؤلاء ولا هؤلاء. أتحدث عن الانطباع وليس عن التمحيص.
٢
لكنني في الحقيقة أظلم الرئيس مبارك بلا قصد، لأن ملف الإعلام في وقت مبارك مختلف كما وكيفا عن الوقت الحالي. حتى عصر القنوات الفضائية كان الإعلام المصري لا يختلف كثيرا عن الإعلام في الإقليم المحيط. ولا يزال الكتاب الصاردر عن هيكل تتلقفه النخبة الناطقة بالعربية، من محبيه وخصومه. وهناك كتاب مصريون قادرون بصنعتهم، لا دخل لنا الآن في موقفك منهم، على تغيير الرأي العام في المنطقة كلها. كما أثبتوا ذلك في حرب الخليج.
ثم تغير هذا بفعل الانتقال الدرامي لآلات الإعلام في أواخر التسعينيات، التي فاجأت نظاما من سمته اجتناب المبادرة، وافتقاد رغبة التغييرات الكبرى. وبالتالي لم يستطع مواكبة التغير. ودفع الثمن.
لكن الرئيس السيسي، الذي يتميز عن الرئيس مبارك بشجاعة القرارات الصعبة وحس المبادرة، لم يكن له عذر له في تعامله مع ملف الإعلام بهذه الطريقة. لأنه رأى ما حدث. ولأن الضغط الإعلامي نفسه جارف، لا مجال فيه للعودة إلى أساليب الستينيات.
تنتشر مقولة أن الإعلام هو السلطة الرابعة. وهذه مقولة مخطئة تماما. الإعلام هو السلطة الأولى. لا معنى لأي قرار ولا توجه ولا رؤية دون إعلام يعبر عنها. هي سلطة هشة، يستطيع حكم مسيطر أن يمحقها. لكن ماذا يفعل حكم مسيطر إن كان الإعلام الحديث خرج من سيطرته. يحتاج إلى التنافس. يحتاج إلى أن يكون عنصر جذب.
النبي موسى، بمجرد أن تلقى التكليف بالرسالة، طلب طلبين. الأول أن تفك عقدة لسانه، ليفهم الناس قوله. والثاني أن يُرسَل معه أخوه هارون، الخطيب الأفصح منه لسانا.
لقد فهم النبي موسى أن الإعلام رقم واحد. علشان يبلغ ”الرؤية“ التي يحملها. هذا ينقلنا إلى النقطة التالية.
٣
من أفضل مميزات الرئيس السيسي أنه واقعي، هو قال عن نفسه في مؤتمر الشباب إنه يعتقد في الأرقام، ورد على المطالب بزيادة الرواتب في قطاع التعليم ردا سهلا لكنه مقنع. مقنع لكنه منقوص.
ماذا ينقصه؟
ربما تكون لدى الرئيس السيسي أفضل رؤية في العالم. فقد اتخذ قرارات اقتصادية شجاعة عجز من قبله عن اتخاذها.
وربما تكون رؤيته الاقتصادية الأسوأ. فالسياسة النقدية والاستثمارية تخبطت كثيرا. ولا تزال غير مشجعة لرأس المال الأجنبي.
ما الأكيد هنا. الأكيد أنني لا أعرف. وأصدقائي لا يعرفون. والدائرة التي أتحرك فيها ونتناقش لا تعرف. وهذا يعني أن الرسالة لم تصل إلينا. وأننا لا نعرف الخطوة القادمة.
لو كنا في مجتمع مغلق، ثري، لتضاءلت أهمية هذا. لكن مجتمعا يمر بتحولات صعبة وظروف اقتصادية ضاغطة كمجتمعنا يحتاج إلى الفهم.
الرئيس السيسي يظلم نفسه لو كانت لديه رؤية جيدة لكنه غير قادر على تبليغها. وخصوصا أنها تتطلب تضحيات من الناس وتحتاج أكثر إلى تفهمها.
ويظلم نفسه ويظلمنا لو كانت الرؤية سيئة لكنه يحميها بالكتمان، ظانا أن الكتمان سيجعلها تتقد. البلد فيها خبراء اقتصاديون لا بأس بهم. على الأقل الفريق الذي عمل في السنوات السبع الأخيرة من حكم الرئيس مبارك. وهم على علم وخبرة. مناقشة الرؤية الاقتصادية في الإعلام يساعد على بلورتها بمشاركة أمثال هؤلاء، ويوجه أنظار الناس نحو المشاكرة في ما يهمهم.
لكن ما أريد الإشارة إليه هنا ربما مر في ثنايا الكلام دون أن يلمع ويلفت. ”الكتمان“ في شخصية الرئيس السيسي القادم من عائلة مصرية تصر على أن الكتمان قادر على إحياء اللهب، والمترسخ بكونه رجل مخابرات سابقا، الكتمان عنده صفة أساسية، لا يهم بعد ذلك اتقدت الشمعة أم ذوت.
هذا الملمح الشخصي البسيط – من وجهة نظري – سبب آخر لاستهانة الرئيس السيسي بملف الإعلام.
الرئيس السيسي ليس رجل مخابرات مدنيا، إنما عسكري أيضا. هذا يضيف ملمحا شخصيا تاليا.
٤
يبدو أن الرئيس السيسي أحبط من الإعلام سريعا. وقرر منذ زمن أن يعتمد على نفسه، منه للشعب. فهو الرئيس الذي خرج الملايين لتفويضه (هل كانوا سيخرجون دون إعلام؟).
لكن في الجوهر من هذا كله أن الرئيس السيسي يعتمد اعتمادا كبيرا على الثقة، الثقة في القيادة المستقاة من الروح العسكرية. ثقة “في الراجل اللي انتو اخترتوه واستأمنتوه”، ثقة في الشخص الذي – وهذه حقيقة – حمل ولا يزال روحه على كفه في مواجهته للإخوان وأعوانهم من الإرهابيين، ومشيطنيه من المثقفين، الجوقة المعتادة التي نجحت في مهمتها مع السادات من قبل. ثقة يطلبها لزوما العسكري في الجبهة من أخيه، وبشكل أكبر القائد من جنوده، ثقة منبعها أن واحدهم اليوم هنا، لكن بكرة مش عارف، الثقة هنا تساوي الحياة نفسها، لا أقل. وهو يقيم علاقته السياسية بالمصريين على هذا الأساس. يثق في من حظوا بثقته. ويثق في أنا الشعب يثق فيه. ويبدو أنه لا يثق في الإعلام.
الثقة صفة جيدة. لكنها لا تتحرك وحدها. تحتاج المهمات إلى خبرة نوعية. إلى مهندسين وأطباء واقتصاديين، لن يتوافروا أبدا في دائرة أهل الثقة. وعلى المجتمعات الحديثة أن تتخلى عن اشتراط ”الثقة“ الكاملة، وإلا وقعت في فخ التمييز. أن تدير شؤونها وهي تعرف أن الناس مختلفون، واختلاف الرؤى في معظم الأحيان ليس تعبيرا عن سوء الطوية، بل عن اختلاف زاوية النظر.
٥
حتى الرئيس عبد الناصر، الذي ملك في الإعلام ساحة بلا منافسة داخلية، والذي اهتم بالخطاب الشعبوي، لم يغفل أبدا حاجة أي إدارة سياسية إلى خطابات على مستويات متعددة.
الخطابات الشعبوية في شعب نصفه أمي، ومعظم متعلميه متعلمون أميون، خطاب مؤثر، لا شك.
لكنه خطاب كحائط مرتكز على عجلات. يتأرجح من هنا إلى هناك، ويوهم كل مستند عليه أنه سده المنيع. قبل أن يركض عنه إلى غيره.
ثم إن الخطابات الشعبوية، حتى ولو أدت واجبها داخليا، تفقد البلد تأثيرها الخارجي، تأثيرها في المثقفين السياسيين، الذين لا يكترثون بخطاب مرتكز على إثارة العواطف الوطنية الخاصة ببلد غير بلدهم. وبالتالي تُعزل النخبة المصرية التي لا تسبح في بحر الرفض والتنديد المتواصلين.
من يعيشون خارج مصر يدركون ما أتحدث عنه. حيث يكاد التأثير المصري الثقافي ينعدم. ليس بين الصحف النخبوية صحيفة واحدة مصرية. وعدد الكتاب المصريين في تلك الصحف أقل من عدد أصابع اليد الواحدة. ولم يعد لمصر إلا نصيب ضئيل جدا في قائمة الكتاب المفضلين المتعدين للحدود الوطنية.
مضطر أن أختم مقالي بما ختمت به مقال الأمس، كارها. مصر في خطر حقيقي. خطر مؤهل لقتل كل النوايا الطيبة، وكل الجهد المبذول. الإعلام ليس كافيا بذاته، لكن لا بد منه.
يا ريت توضح، تقصد إيه بالكتاب اللى قدروا يغيروا الرأى العام ف حرب الخليج؟
دا محتاج استرجاع للجو العام وقتها. الآلة الإعلامية للعراق مكانتش سهلة. لكن فيه كتاب زي ابراهيم سعدة مثلا قدروا يعملوا رأي عام في أوساط قراء الصحف. دا يختلف عن الرأي العام اللي بيتعمل بالتليفزيون