مقالات هتعجبك

معادلة التغيير السياسي: خطر دولة يوليو على نفسها وعلينا أيضا

التغير السياسي الأعظم حدث في إنجلترا، وأسس لأمريكا. فيف حدث هذا التطور دون ثورات دموية؟ ولماذا ارتبط التغيير بالثورة؟ لخصت الإجابة في معادلة طبقتها على مصر

ما الذي فعلته إنجلترا ولم تفعله غيرها من دول أوروبية كبرى. لماذا لم تسقط إنجلترا في صراع دموي بين السلطة والشعب كما حدث في فرنسا وروسيا وغيرهما؟

بالنظر إلى التاريخ الحديث، هناك قاعدة عامة ملحوظة في صراعات التغيير السياسي: التغيير السياسي من أعلى، دون تغيير للعقيدة الاجتماعية، ينتج عنه صراع. في هذا الصراع تكون السلطة أول الضحايا، لكنها ليست آخرهم.

وبالصيغة الرياضية:

تغيير سياسي سطحي – إصلاح العقيدة الاجتماعية = صراع دموي، السلطة أول ضحاياه ثم قطاع عريض من الشعب.

من المتن إلى الشروح

تغيير سياسي سطحي

قشرة الدهان التي توضع على شيء قديم لكي يظهر وكأنه حديث معاصر.

لا تزال قوى سياسية فاعلة في مصر تدعو إلى تصنيف المواطنين حسب أديانهم، وإلى ملاحقة الناس على أفكارهم العقائدية ومدى إيمانهم، وإلى مطاردة السياح واستحلال دمائهم. لكن هذه القوى نفسها – وهي القوى الأكبر – تدعو إلى الاحتكام لصناديق الانتخابات في اختيار السلطة.

ما يحدث هنا، أن هذه الجماعات التي تعادي أسس العقيدة الاجتماعية الديمقراطية، (المساواة الوطنية – حرية الاعتقاد – حفظ الحياة للجميع – البشر هم مصدر القوانين) هي نفسها الجماعات التي تطالب بإجراء ديمقراطي واحد فقط. إجراء واحد فقط. هو الانتخابات. وتستخدم دعاة الحداثة أنفسهم لكي يروجوا لهذا الإجراء. دون أن تلتزم الجماعات ببقية مفردات العقيدة الاجتماعية الديمقراطية. أصدق وصف لما يجري هو ما أطلقوه هم أنفسهم ”غزوة الصناديق“. استخدام الصناديق في تحقيق الغلبة بدلا من السيوف. ليس إلا.

بدهان الدولة القديمة بهذا الإجراء “الديمقراطي” في ٢٠١١، كان الناتج الطبيعي هو اكتمال الحقيقة التي نعرفها جميعها، واحياء دولة التصنيف الديني. دولة تدعو فعلا إلى انهزام المصري المسيحي والبهائي أمام المصري المسلم، وأمام الأجنبي المسلم أيضا. دولة تدعو فعلا إلى قمع الفكر بالتهديد بالكفر. دولة  تدعو فعلا إلى انهزام القانون أمام التأويل الديني. ثم انهزام المنفعة السياسية أمام الولاء والبراء. وسيتضح من سياق المقال لماذا أعدت التوكيد بلفظة “فعلا”.

هل يعني هذا أنني أعارض التغيير؟

بالعكس، أطالب بالتغيير الحقيقي، تغيير العقيدة الاجتماعية القديمة إلى عقيدة حديثة. بمفرداتها التي أشرت إليها أعلاه. لأن مقاومة التغيير ستؤدي إلى انفجار لا يقل خطرا عن التغيير السطحي.

هل تغيير العقيدة الاجتماعية يعني تغيير الدين؟

الدين الغالب في مصر هو الإسلام. لكن هل هذا يعني أن العقيدة الاجتماعية في مصر مثل العراق، أو إيران، أو باكستان، أو تركيا، أو السعودية، أو الإمارات؟ فكلها الدين الغالب فيها هو الإسلام.

لا. كل دولة من تلك تتشابه في أمور مع غيرها وتختلف في أمور.

مصر نفسها تختلف في عقيدتها الاجتماعية في القرن الثامن عشر عنها في التاسع عشر عنها في العشرين. وتختلف في النصف الأول من القرن العشرين عنها في النصف الثاني منه. وتختلف في ستينيات القرن العشرين عن سبعينياته عن ثمانينياته عن تسعينياته.

العقيدة الاجتماعية ليست مرادفا للدين، إنما الدين جزء منها، يؤثر فيها ويتأثر بها. العقيدة الاجتماعية هي مجموعة المعتقدات والأعراف والقيم التي تهيمن في مجتمع. ”ما تدين به أمة سياسيا واجتماعيا“. مفردات هذه العقيدة الاجتماعية كثيرة جدا. إنما سأشير هنا إلى ثلاث ركائز أرى أنها الأعمدة التي تقوم عليها العقيدة الاجتماعية في بلد:

١المواطنة

كيف ترى هذه الدولة العلاقات بين مواطنيها. وما هو موقف دين المجتمع من هذه العلاقات.

هل هي علاقات تسامح وقبول، تؤدي إلى سلم اجتماعي، أم هي علاقات تناحر؟

هل توجه هذه العلاقات طاقة أفراد المجتمع نحو ما ينفع الجميع؟ أم تشغلهم بالصراع بينهم وبين أنفسهم؟ وبالتالي تشغل البعض بحجز آخرين عن فرص العمل، أو عن النجاح أو عن الترقي؟ إلى آخره.

كيف ينعكس هذا على علاقة المجتمع بغيره من المجتمعات؟ ما حجم عداوته للآخرين ما حجم تسامحه؟ قد يبدو هذا غير مرتبط بالعنوان. لكنه في الحقيقة مجرد امتداد طبيعي له.

٢المهنة/المهن (النشاط الإنتاجيالأنشطة الإنتاجية)

ما هي المهنة التي ترفعها العقيدة الاجتماعية فوق غيرها، وبالتالي تسخر تعاليمها لخدمتها؟

هل هذه المهنة التي تقدسها العقيدة الاجتماعية هي فعلا مهنة المجتمع أم مقحمة عليه؟

هل هي نافعة له أم أنها – على العكس – مضرة لمصادر ثروته؟

نستطيع أن نحدد ذلك من النظر إلى أدبيات المجتمع، إذاعته المدرسية، ماذا يدرس لطلبته في المدارس، ماذا يقول رجال الدين للناس. أشدد على أنني أتحدث عن المجتمع ككل، حكاما ومحكومين. المناهج الرسمية والخطابة الشعبية.

٣وضع الأقليات

المقصود بالأكثرية هنا كل من يحتمل أن يصل إلى قمة الهرم الاجتماعي إن توفرت فيه شروط السلطة. أي، في الحالة المصرية، الذكر المسلم السني ساكن وادي النيل.

الأفكار الشائعة في مجتمع تسري في صفوف الأغلبية دون أن تلفت النظر. لأنها شائعة. لكن المقياس الحقيقي لاختبارها هو الأقليات، النساء وأبناء الديانات الأقلية والمجتمعات ذات البعد الإثني الخاص. هؤلاء – إن تحدثت إليهم – سيلفتون نظرك إلى أقوال وتصرفات واعتقادات شائعة تؤلمهم. وفي الغالب لا يجدون فرصة كبيرة لمعارضتها علنا. وإن فعلوا فمن السهل تجاوز هذه المعارضة وعدم الالتفات إليها. تحت هذه البنود الثلاثة ستندرج غابة من المفاهيم والأفكار والمعاملات. في المهنة مثلا سيمر عليك سؤال هل الإنسان يكسب قوته أم يرزقه؟ وبناء عليه مدى إلحاح إحساسه بفكرة العمل كفكرة جوهرية في حياة المرء. وبناء عليه نظرته للنجاح ومصدره. ونظرته لمن الذي ينبغي أن يتملك ثمرة هذا النجاح. وهل عليه أن يدفع ثمن ما يحصل عليه كما يتقاضى أجر ما يقدمه أم لا. إلخ.

المعيار الأساسي لاختبار ما سبق هو ”الخجل المجتمعي“. ما يتداوله أفراد المجتمع دون خجل أو خشية من عقاب أو لوم أو توبيخ هو العقيدة الاجتماعية لهذا المجتمع. (بمنتهى البساطة)

فأين الدولة المصرية من كل هذا

أقول بمنتهى الراحة إن الدولة المصرية بدءا من ١٩٥٢ كانت سببا في تدهور العقيدة الاجتماعية للمجتمع المصري. وفي تعبير مختصر ”إن تحول مصر الكسول نحو دولة دينية بداء من ٢٣ يوليو ١٩٥٢، على عكس ما يبدو من ظاهر الأفعال.“

التعبير السابق يحتاج شرحه إلى مساحة أكبر من المقال. لكن في حدود المقال أدعوكم إلى المقارنة بين الجو العام في أربعينيات مصر، من حيث مدى مساهمة المصريين من اليهود والمسيحيين في المجال العام وبين حجمها الحالي.

حرب دولة يوليو على المواطنين المصريين اليهود هي نفسها حرب الجماعات الدينية على المسيحيين وغير المسلمين. نفس الجوهر.

سعي دولة يوليو إلى تعظيم دور الأزهر في التربية والتعليم وفي وضع حد لحرية الفكر، هو نفسه سعي الجماعات الدينية إلى سيطرتها على العقل وعلى سقف الخطاب.

خطاب دولة يوليو ضد الأجانب هو نفسه خطاب الولاء والبراء الذي تتبناه الجماعات الدينية.

السعي إلى الوحدة السياسية العروبية الإجبارية (وليس حسن الجوار) من دولة يوليو هو نفسه خطاب الخلافة في الجماعات الدينية.

القيم واحدة، وإن كانت دولة يوليو تتتخلى عن بعضها وتستزيد من أخرى من زمان إلى زمان. ودولة يوليو تستقي قيمها من حكمة الزعيم الملهم في حين تستقي الجماعات الدينية القيم من حكمة السماء. هذه القيم طحنت المواطن المصري بين شقي رحى بعد أن كانت طبقته الوسطى على الأقل منفتحة ومنتجة للثقافة والفنون والتطوير الاقتصادي. لا اختلاف بين دولة يوليو والجماعات الدينية إلا الموقع والدرجة التي يعتزمان شدنا إليها.

حسنا. دولة يوليو شدت عقيدتنا الاجتماعية إلى الدرجة ٣، ويصر الإسلاميون على شدنا إلى الدرجة صفر. ولكن دولة يوليو لا تزال بعيدة عن إدراك أنها أكبر معين للجماعات الدينية. لا تزال تستهين بمعنى تحدي الأزهر لفكرة الإصلاح الديني وإصراه – وهو مؤسسة رسمية – على تهيئة المجتمع لحكم الجماعات الدينية. ولا تزال تظن أن كل منتقد لها مدفوع بالعداء. وليس هذا صحيحا. إن القطاع الأكبر من منتقدي دولة يوليو يفعلون ذلك من باب الحرص على مصلحتنا كمواطنين نريد أن نعيش في مجتمع سلم. ونريد التنبيه إلى كمين الخطر. السائر على حرف لا يضمن الزلل.

مصر في خطر. لا يخدعنكم تراجع إرهابيي الجماعة المؤقت.

والتنبيه إلى الخطر يعني الاعتقاد في الأمل. مصر في حاجة ماسة إلى رؤية عصرية، تعدل عقيدتها الاجتماعية كما فعلت من قبل في فترة نهضتها. وإلا فصراع آخر قادم، ستكون السلطة أول ضحاياه، ولكننا سنكون ضحايا أيضا.

إنجلترا أدركت هذا، خاضت صراعا حول العقيدة الاجتماعية. وسلطتها أدركت هذا. فقبلت بالتغيرات التي أملتها العقيدة الاجتماعية الجديدة.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading