مقالات هتعجبك

مكافحة الإرهاب: فضل الشيوعيين على الإخوان المسلمين كان عظيما

الخطوة الأولى في الثورة البلشفية قادها رجل دين، والخطوة الثانية قادها ليبراليون. ثم كسب الشيوعيون. انقلبت الآية في إيران. فهل تدرك مصر نفسها قبل فوات الأوان؟

سئلت لماذا أكتب عن الشيوعية بعد أن كتبت عن الإخوان المسلمين؟ ما الذي يعنينا من الشيوعية وقد اختفت من العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؟ كما أنها لم تكن أبدا مهمة في العالم العربي؟ وسأجيب من تجربة مصر.

أحدى المشاكل الأساسية بالنسبة لحركات الإسلام السياسي كان بعدها عن أوساط الطبقة الوسطى، بسبب الخجل الحضري من تبني مظهر سلفي لا يناسب حياة الحضر. وكذلك الخجل  استخدام مفردات ثقافية تنتمي إلى طبقة متعلمي الكتاتيب أكثر من انتمائها إلى طبقة متعلمي المدارس والجامعات. وهو ما أوجد حاجزا نفسيا عطل الحركات الإسلامية عن الوصول إلى طبقات مهمة في التغيير المجتمعي، الطبقتان الوسطى والوسطى العليا.

دخول الشيوعيين، وتفرعاتهم القومية اليسارية، على الخط، وتحالفهم مع الإسلام السياسي، مكن قوى الإسلام السياسي من تخطي هذا الحاجز. نستطيع أن نفكر في شخصيات مثل جوزيف سماحة وطلال سلمان في لبنان، ومثل عبد الوهاب المسيري وحسن حنفي في مصر. استخدم الإسلام السياسي هؤلاء في نقل ما تشابه بين الطرفين من قيم (وهي كثيرة جدا) إلى صفوف الطبقة الوسطى. من أول قيم العداء للغرب وصولا إلى قيم الاستهانة بالمفهوم الحديث للدولة الوطنية.

نقل هذه القيم إلى طبقة من يرتدون القمصان، بدلا من مرتدي الجلاليب والعمائم، وبالتالي ألبسها مظهر العصر الحالي بدلا من العصور السالفة.

لكنه مكنهم مما هو أهم.

نقل إليهم التجربة الشيوعية في الوصول إلى الحكم، وهي تجربة غنية بالدراسات المعاصرة، على عكس الكتابة السياسية الحركية للإسلاميين، والتي ظلت كتابة مشغولة بعقلية الوحي والمعجزات والتأييد الإلهي، في زمن انقطع فيه الوحي والمعجزات. حين يترك الإخوان لأنفسهم يعودون إلى هذا، فيتحدثون عن جبريل الذي نزل على رابعة.

فضل الشيوعيين على الإخوان أهم من ذلك، لقد منحهم الطرف الأعلى من الكماشة. وسأشرح هذه العبارة.

اعتمدت خطة الشيوعيين في الوصول إلى الحكم، كما هو مسجل في أدبيات الثورة البلشفية، على أسلوب ”الكماشة“. ضغط من أسفل يعتمد على تجييش الطبقات الفقيرة من المجتمع، وكان هذا في متناول يدهم. الخطاب خطاب بسيط يؤكد للفقراء أنه في مصلحتهم. والطبقات المستهدفة من الفلاحين والعمال لن تفكر فيه بطريقة نقدية، ولن تفنده كما يفعل المواطن الجيد التعليم، الذي يستمع أيضا إلى وجهة النظر المقابلة ويوازن بينهما. ينتظم هذا الضغط السفلي من خلال النقابات العمالية والمراكز الحزبية.

ثم ضغط من أعلى. وهذا يأتي من صفوف المقتنعين بـ ”بعض“ الأفكار الماركسية في أوساط الساسة. الذين يمررون قوانين متماشية مع الأفكار الماركسية، أو حتى جزئيات منها.

التأثير الأكبر لهذه الكماشة يستهدف المواطن ”المتأرجح“ الموجود في المنتصف. الأغلبية الصامتة كما يطلق عليها. التي لا تعتقد في هذه الأفكار، لكنها لا تملك أفكارا بديلا متناسقة منتظمة تواجهها بها. هذا المواطن ينظر إلى أسفل فيجد جموعا تطالب بهذه المطالب. وينظر إلى أعلى فيجد قوانين تمرر تتماشى مع هذه المطالب، ولو جزئيا. فيتكون لديه الانطباع أن الحياة تسير في هذا الاتجاه. وأنه هو – بلا شك – المخطئ. فيصير خجلا من التعبير عن اعتراضه. ولو تجرأ وفعل سيجد طوفانا من الموبخين. وسيؤثر الصمت. أو يتحين الفرصة لمجاملة هذه الأصوات المنظمة، لكي يثبت لهم أنه ليس شريرا كما يعتقدون. باختصار سينهزم نفسيا ويشعر دائما أنه وحيد.

من المناسب هنا أن أشير إلى أن من تولى الحكم بعد ثورة فبراير ١٩١٧ الشعبية لم يكن الشيوعيون، بل كانوا مجموعة يمكن أن توصف بالمعتدلين من الديمقراطيين الاجتماعيين والليبراليين (نفس قصة إيران). خلال الثمانية أشهر التالية عاد لينين من منفاه وبدأ الدعاية ضد هذه الحكومة.

وُصِف هذا التدرج، بـ ”البرلمانية الثورية“، أي استخدام البرلمان لتحقيق الثورة. (هل يذكرك هذا بشيء).

أما ما سمي بثورة أكتوبر ١٩١٧ فلم تكن أكثر من انقلاب عسكري. من شيوعيين داخل المؤسسة العسكرية. دخلت البلاد بعدها في حرب أهلية طاحنة استمرت حتى ١٩٢٣. وانتصر فيها الجيش الأحمر الموالي للشيوعيين، الذي مارس إرهابا غير مسبوق في استهتاره بأي معيار إنساني، رغم أنه – المفروض – ينتمي إلى فئة من كانوا يطالبوا بالحريات وحقوق الإنسان.

حين أتناول التفكير السياسي الشيوعي، إذن، فأنا لا أبعد عن ما يشغلنا في هذا الوقت من نقد للإسلام السياسي. بل لا أزال في صلبه. لأن فضل الشيوعيين على الإسلاميين، في المنطقة العربية، كان عظيما. سواء في توصيل الخطاب السياسي الناقم إلى قطاعات جديدة، ومنحهم الوجه البراق، وتوثيق الصلة بينهم وبين الاشتراكية العالمية قوية التأثير في الإعلام الغربي.

مرة أخرى. الشيوعية والإسلام السياسي مجرد مظاهر سياسية لنفس الجوهر. النظام الشمولي الذي يتدخل في حياة الناس الخاصة فضلا عن العامة، ويحدد لهم بالظبط ماذا يقرؤون وماذا يلبسون وكيف يفكرون. لفت نظري وأنا أقرأ عن الثورة الروسية مقولة الشيوعيين أنهم ”يمثلون مصلحة الطبقة العاملة حتى لو كانت الطبقة العاملة نفسها غير مدركة لها“، ومدى تشابهها مع المقولة السلفية التي يستخدمها الإسلام السياسي: ”ندخل الناس الجنة مقيدين بالسلاسل“. أما التحول من صفوف الشيوعيين إلى الإسلاميين فأكثر من أن يحصى.

لكن ما الأهمية العملية لهذا؟ 

لا تزال الذهنية السياسية للمتضررين من الإسلام السياسي، والقلقين من تمدده، ذهنية قاصرة عن إدراك أهم ما في الموضوع. الجانب الفكري.

١– مواجهة التنظيمات المسلحة بالأمن مهم جدا ولا غنى عنه. الفكر ليس بديلا للأمن. لكن المواجهة لا يمكن أن تقتصر على الجانب الأمني فقط. كما أنها، حتى في الجانب الفكري، لا يمكن أن تقتصر على عقلية ”المواجهة“ فقط.

ماذا أعني؟

عقلية ”المواجهة“ تشبه عقلية ”الدفاع“ في كرة القدم. غرضها منع الفريق الآخر من إحراز أهداف، لكنها في ما سوى ذلك محدودة الأفق. وهي عقلية رد فعل، وليس مبادرة بالفعل.

٢– هذه العقلية، فضلا عن ذلك، حتى في دفاعها، لا تجيد قراءة الجمل التكتيكية للخصم. مع أنها مكتوبة في التاريخ. وهي تكرر نفس الخطأ الذي وقعت فيه الدول من قبلها.

الإخوان وصلوا إلى ما وصلوا إليه ليس بسبب أن الدولة أعطتهم وحدهم حرية التحكم في المجتمع من أسفل، وتركت تنظيما عنصريا يتولى ”المواطنين المسلمين“ وخدماتهم. بل لأنها أيضا منحتهم متطوعة طرف الكماشة الأعلى. لا أدري هل هذا بسبب جهل كما ذكرت، أم بسبب عناصر متسللة داخلها، تمرر قوانين الإسلام السياسي قانونا وراء قانون، حتى أصابت المواطن بالحيرة. وصار يرى ضغطا من أسفل، يتسلل إلى الأسانسير وبلكونة منزله، والمسجد، والمستوصف، والنقابات. ثم ضغطا من أعلى يأتي من الإعلام الرسمي ومن القوانين الرسمية. فيشعر المواطن في المنتصف بأنه وحيد، وأن الجميع يسير في نفس الاتجاه لا محالة.

في كل الأحوال هذا يعكس حالة الفقر الفكري التي أصابت الدولة المصرية، ودول أخرى في المنطقة، لكنني أتحدث عن ما أعرفه. تاهت من رؤية دولة يوليو أسس قامت عليها هذه الدولة الوطنية.

أولا:

الدولة ليس وظيفتها رعاية الدين، الدولة وظيفته حماية حرية الناس في ممارسة دينها. بناة الدولة الحديثة لم يصلوا إلى هذا اعتباطا، بل لأنه ركن أصيل في بناء الدولة على أساس رعايتها للمواطن بغض النظر عن دينه. الدولة المصرية بأفعالها تلك تقول للإخوان، نعم، نحن موافقون على أن المواطن المسلم أفضل من المواطن المسيحي. نحن نقوم بدور الله.

الدولة ترسل إلى مواطنيها رسالة بأن جوهر دعوة الإسلام السياسي لا خلاف عليها. الخلاف فقط على من يتولى الحكم. وبالتالي فالمواطن حين يتبرم يعتقد أن الخلاص في تغيير الأشخاص. ولا يختلف عنده فلان عن فلان.

Screen Shot 2017-07-23 at 13.00.38.png

ثانيا:

كانت الطبقة الوسطى تخجل من الانتساب إلى صفوف الإسلاميين. لكن بطغيان الفكر الريفي على الحضر لم تعد كذلك. ثم بالرونق الذي أضافه اليساريون على الخطاب الإسلامي تغلغل الخطاب في الطبقة الوسطى أكثر.

لكن هذا وجه واحد من العملة. الوجه الأشد خطرا أن كثيرا من أبناء الطبقة الوسطى، جيل الأبناء، صار يخجل من الدولة. نعم. أنا أقصد التعبير تماما. يخجل أن يكون في نفس الصف مع الإعلامي فلان الفلاني، أو علان العلاني. لأنهم تحت مستوى الطموحات.

لم يعد المجتمع المصري قادرا على طرح أسماء مبدعة في عالم الفكر. هذه حقيقة مؤسفة. لا يمكن أن يكون هذا تدهورا جينيا. هذا نتيجة بيئة. الغريب فيها ونحن نتحدث عن تحالف الإسلاميين والشيوعيين القدامى، أن الإسلاميين سواء في حزب الله أو الإخوان، صاروا متفهمين لطبيعة الإنتاج الفكري، وأن التماثل التام غير موجود فيه. حزب الله بدأ التجربة في لبنان، ثم استلهمتها قطر والإخوان.

أما العقليات السياسية القديمة التي تحكمنا فصارت تلاحق المستقلين، ولا تفرق بين الاختلاف وبين العداء، بل تستعدي كل مختلف عنها، وفي الأخير لا يبقى في صفها إلا المنبطحة والموقوذة والمتردية وما أكل السبع، ممن يقبلون الإملاءات، ولأنهم فارغون يمكن أن يمتلئوا بما يملى عليهم.

ثالثا:

أشرت إلى هذا من قبل بصيغة مختلفة. لكن البناء الفكري للدولة المصرية قريب من البناء الفكري لتحالف اليسار الإسلامي بطريقة مخيفة. هناك فارق كبير يتعلق بالهوية الوطنية. لكنه فارق غير واضح، بسبب سيل القرارات الصغيرة التي اتخذته الدولة منذ ١٩٥٢ حتى الآن.

لو وضعنا شخصية وهوية دولة النحاس في كفة. ووضعنا اليسار الإسلامي على نقطة مقابلة. أين تقف الدولة الحالية من الاثنين؟

حسنا. دولة النحاس هي دولة طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وعبد الوهاب وأم كلثوم ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وسيد درويش وهي دولة طلعت حرب وداود حسني. بل هي الدولة التي شب فيها هيكل ويوسف إدريس وغيرهما من نجوم الحقبة التي تلتها.

باختصار،

مصر تحتاج إلى رؤية. وإلى إدراك للطبقة الوسطى وطموحاتها. وإلى فكر تجد فيه هذه الطبقة نفسها وتتفاعل معه.

ربما يكون من الجيد قراءة تاريخ ما يسمى بالثورة الروسية، من ١٩٠٥ إلى ١٩١٧. فيه بصيرة ودروس عظيمة.

واقرأ أيضا مقالي كيف اختصرت كلمتان فقط جوهر الشيوعية والحكم الديني؟ الذي يتناول الأسس المشتركة، نفسيا وعمليا، بين الشيوعية والإسلام السياسي

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading