كيف اختصرت كلمتان فقط جوهر الشيوعية والحكم الديني؟
١
“الأخ الأكبر” إحدى أشهر العبارات التي دخلت القاموس السياسي في العالم كله. “الأخ الأكبر” صاغها جورج أورويل في روايته الشهيرة “١٩٨٤” لوصف رأس النظام الشمولي الذي يتحكم في الحيّز السياسي العام للمحكومين، في خياراتهم ومشترياتهم وطرق تعارفهم وقناعاتهم العلنية، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يتدخل في الحيّز الخاص أيضا، ماذا يقرؤون في بيوتهم، ماذا يأكلون وماذا يشربون، من يستقبلون، والأكثر من ذلك ما هي الأفكار التي تدور داخل عقولهم.
العبارة أثارت أسئلة حول المصدر الذي ألهم الكاتب بها. وأكثر التفسيرات شيوعا أنه استلهم العبارة من إعلان لشركة تقدم كورسات تعليمية بالمراسلة. وفي الإعلان صورة لصاحب الشركة، وهو رجل كبير السن، سمح الهيئة، مكتوب تحتها ”اسمح لي أن أكون أباك“.
وحين مات صاحب الشركة وتولى ابنه مسؤوليتها استخدم نفس النمط في الإعلان، ولكن بصورته هو، مكتوب تحتها، ”اسمح لي أن أكون أخاك الأكبر“.
فكرت في هذه العبارة، وبلاغتها، والسبب في قوة تأثيرها، وحاولت في هذا المقال أن أشرح وجهة نظري في مصدر هذه البلاغة وهذا التأثير.
٢
استلهم سوفوكليس مسريحة “الملك أوديب” من الأساطير اليونانية القديمة، وفيها أن ملكا وزوجته يتلقيان نبوءة بأن مولودهما سوف يقتل أباه ويتزوج بأمه. وعلى الفور يرسلان هذا المولود إلى راع لكي يتخلص منه. والراعي يعطيه لراع. وهكذا حتى يصل إلى يد ملك وملكة في بلاد بعيدة، كانا محرومين من الإنجاب، فيتبنياه، ويكبر الابن، أوديب، معتقدا أنه ابنهما.
في مشادة في حانة يسمع الشاب أوديب أنه ليس ابنا فعليا للملك والملكة. لكنه لا يلقي لهذا بالا. ما يؤرقه حقيقة هو عراف يخبره أنه سيقتل أباه وسيتزوج بأمه. هنا يقرر الشاب أوديب أن يترك بلاده ويسافر بعيدا حتى لا تتحقق النبوءة. وفي الطريق تتعارض عربته مع عربة مسافرين آخرين، وتنشب عركة، تنتهي بأن يقتل أوديب هؤلاء المسافرين.
دون أن يعلم يمر أوديب ببلد مولده، حيث تتعرض لحصار فرضه عليها غول مجنح، وكان شرط مروره أن يحل لغزا، وإلا مات هو وسكان المدينة. اللغز يتساءل ”ما هو الكائن الذي يمشي في الصباح على أربع وفي الظهيرة على اثنتين، وفي المساء على ثلاث“. يحل أوديب اللغز، الكائن هو الإنسان، يحبو على أربع، ثم يمشي على اثنتين، ثم يتعكز على عصا.
ينتحر الغول المجنح، ويتزوج هو الملكة.
يخلص أوديب البلاد من طغيان الغول. يصير المنقذ. يكافأ بالسلطة.
ثم يحل طاعون بالمدينة. حيث لا خلاص منه – بمشورة العرافين – إلا في القبض على قاتل الملك السابق ومحاكمته. يتعهد أوديب بذلك. ويلجأ إلى عراف ليخبره من هو القاتل. يحاول العراف أن يتهرب من الإجابة. لكنه في النهاية يرضخ ويخبر أوديب أنه هو القاتل، وأن الملك المقتول أبوه. وأنه ”أخ وأب لأطفاله، وابن وزوج لأمه“.
كان لدى أوديب من زوجته، وأمه، أربعة أطفال، هو أبوهم، ولكنه أيضا “الأخ الأكبر”.
الأخ الأكبر الذي قتل أباه، وعقد قرانه على السلطة.
٣
نعرف أن الأخ والأخت تزاوجا حتى في ظل التاريخ المدون، قبل حوالي ستة آلاف سنة. ونعرف أن هذا الآن من المحرمات في أغلب المجتمعات. نعرف أيضا أن بعض المجتمعات تتزوج بنت العم، بينما هي عادة محرمة في جزء كبير من العالم.
القصد أنه في التاريخ النفسي الغريزي، يبدو أن الإنسان قطع شوطا في تحريم علاقات كانت يوما موجودة. فأنفها الإنسان المعاصر، لكنها ظلت باقية في ذاكرته النفسية.
عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد وصف ميل الابن أو الابنة إلى الجنس الآخر من الأب والأم في مرحلة الطفولة المبكرة، من ٣ إلى ٦ سنوات، ثم كتمان هذه الرغبة مع الوعي بالصواب والخطأ. وسمى هذا ”عقدة أوديب“. الشق الذي يعنينا هنا من عقدة أوديب هو الشق المتمثل في علاقة الابن، ولا سيما الابن الأكبر، بالأب. وهو سلوك نلاحظه في حياتنا الاجتماعية.
يدور هذا السلوك حول جوهر واحد هو التنافس بين الأخ الأكبر والأب. والذي يتحول إلى رغبة في التمرد من جانب هذا الأخ الأكبر. لكن السلوك الظاهري يختلف، بمساعدة الأم. فإما تسعى إلى المبالغة في إرساء مبدأ قداسة الأب، قمعا لأي محاولة من الذكور لتحدي سلطته. وإما تسعى إلى تقويته وتحفيزه سرا أو علنا، إحساسا منها بأن هذا الابن هو عزوتها الحقيقية، وسندها في مخاوفها من سلوك الأب نحوها.
هذا السلوك الاجتماعي نفسه موجود في العائلات السياسية. والتاريخ القديم والمعاصر قدم عليه أمثلة لمؤامرات في بلاط الملك، قتل فيها الأخ الأكبر أباه، أو تآمر لقتله، أو انقلب عليه.
هذه صورة مصغرة لتجليات عقدة أوديب النفسية، في حياتنا الاجتماعية والسياسية. لكن الصورة التي قدمها جورج أورويل في روايته تأخذ الموضوع إلى أبعد من ذلك، وتلخص لنا في عبارة واحدة، شهدناها وعرفناها في حياتنا الاجتماعية والسياسية، صراعا من أكبر وأعظم الصراعات التي شهدها الإنسان في تاريخه السياسي، وأعمقها أثرا.
فكيف استخدم أورويل رمزية قتل الأب في روايته، دون أن يصرح بها؟
٤
كان كبير القبيلة في المجتمعات القديمة يحكم بموجب خبرته الحياتية وتجاربه التي مر بها. أو يتجاوز ذلك إلى ادعاء اتصاله بأرواح الأجداد الذين رحلوا. وكان مدعوما بتشعب نسله، فهو أب كل الإخوة، الأعمام، وجد كل أولاد العم، وأبنائهم. وسوف يحظى في أي وقت بدعم عدد أكبر مما قد يحظى به أي من أبناء الجيل الصغير منفردا.
لكن مع نشأة الدولة صار الحكم يحتاج إلى أب لكل القبائل والعائلات. وما من حاكم على وجه الأرض يستطيع الادعاء بهذا. لكنه يستطيع بمساعدة رجال الدين أن يقول إن الأب موجود في السماء، وأنه من سلالته، ومخول من قبله باستخدام هذه الشرعية في حكم الدولة.
الأساطير اليونانية عن نسب الأبطال والحكام إلى زواج بين أب سماوي وامرأة من الأرض أكثر من أن تحصى.
حكام مصر وأباطرة في الشرق الأقصى كانوا أيضا من سلالة إلهية. من سلالة ”أب“ في السماء.
اليهودية استخدمت تعبير “أبناء الله” في الإشارة إلى شعب إسرائيل. والمسيحية كانت أوضح في التعبير عن هذه العلاقة، “أبانا الذي في السماء”، “بِسْم الأب”. ولا يزال ممثلو الإله على الأرض يطلق عليهم لفظ “الأب”. الإسلام نفى العلاقة الأبوية ولكن بغرض زيادتها، استبدل بعلاقة الأب/الأبناء علاقة الرب/العبيد.
ما يعنينا من كل هذا أن “الأب” بمعنى الشرعية السياسية، منذ نشأة الدول وحتى عهد قريب، تعني الرب.
٥
استخدام جورج أورويل لتعبير “الأخ الأكبر” في وصف شمولية النظام الشيوعي، سواء عن وعي بذلك أو لا، استدعى كل المعاني الاجتماعية والسياسية التي أشرت إليها.
دون أن يصرح بهذا مباشرة، أخبرنا أن ما حدث هو أن الأخ الأكبر قتل الأب الذي في السماء بمنع ذكره وملاحقة ذكراه، ومنع الناس من التعبد له، ثم جلس مكانه، وأعطى لنفسه كل سلطاته.
صار كما الرب يراقب الناس في بيوتهم، ويحاسبهم على أفكارهم، ويقرر لهم ماذا يأكلون وماذا يشربون، وأي المعتقدات مسموحة وأيها يحاسب عليه.
لقد قال لنا، باستخدام هذا التعبير، إن النظام الشيوعي ليس أكثر من نظام ديني آخر. لكنه نظام يحكمه الأخ الأكبر، الأخ الأب، الأخ الرب، بعد أن قتل الرب. قال لنا إن الأخ الأكبر بعد أن قتل الأب، أقام نظاما دينيا، ولكن بلا رب، لقد صار هو الرب.
باستخدام عبارة الأخ الأكبر قال لنا أورويل، دون تصريح، إن جوهر النظام الديني السياسي والنظام الشيوعي واحد. جوهرهما الشمولية. كل الفارق أن الأول يقوده “الأب”، والثاني يقوده قاتل الأب، الأخ الأكبر.
لقد فسر لنا أورويل، ببلاغة منقطة النظير، هذه العلاقة الغريبة العجيبة بين الدين السياسي وبين الشيوعية. لماذا هما خصمان لدودان يتزاحمان ويتقاتلان على نفس الموقع، ولماذا هما في نفس الوقت يتفهمان أحدهما الآخر ويتقاربان في مواجهة الحرية بجوهر فكري واحد هو “الهندسة الاجتماعية”. الاعتقاد في وجوب وضع الناس في قالب اجتماعي لا يخرج أحد عنه. لأن جوهر النظام واحد. الشمولية. السيطرة الشاملة على حياة الرعية، في الحيز السياسي العام، وفي الحيز الفردي الخاص.
٦
لكن براعة العبارة أنها غير محدودة بحذافير النموذج الذي اختاره جورج أورويل لروايته. بل تتحرر من حرفية النموذد لتكون قائمة بحد ذاتها.
في الأنظمة العربية التي استلهمت الشق السياسي من النظام السوفييتي، سنجد أن الحاكم الجديد يصور دائما كزوج للأم، السلطة/البلد. يتكرر هذا المعنى في الرسم، وفي الكاريكاتير. وفي التعبيرات الشعبية.
وفي فيلم ”شيء من الخوف“، سيكون هتاف القرية اعتراضا على تولي الحاكم سلطة البلد: زواج عتريس من فؤادة باطل.
أوديب يطل من زوايا الحكاية مهما اختلفت التفاصيل.
والأخ الأكبر، الأخ الأب، موجود دائما.
نتذكر كلام العراف في مسرحية أوديب: ”أخ وأب لأطفاله، وابن وزوج لأمه“.
أيها الإخوة المواطنون.. أنا تزوجت أمكم وبقيت أبوكم.
٧
النظم العالمانية الغربية لم تفعل كما فعل النظام السوفييتي في الدولة الأرثوذوكسية.
النظام الكاثوليكي في بريطانيا تحول – بعد صراع – إلى صيغة جديدة باسم جديد هو البروتستانتية، فردية، مبنية على مركزية الأبناء. بينما الملك كرمز للأب (حكم الرب) لم يقتل، بل ظل في قصره، ولكن بعيدا عن السياسة ممنوعا منها.
لكن البروتستانتية هزمت في فرنسا، وظل النظام الكاثوليكي الأبوي. لذلك كانت العالمانية أشد حدة في مواجهته. فلم تبق الملك (رمز حكم الأب الرب) في قصره، بل قتلته وقطعت نسله. ومنعت رموز الرب من الظهور في الحياة العامة. وإن لم تلاحق الدين في حياة الناس الخاصة كما فعل النظام السوفييتي.
في النموذجين السابقين لم يقتل الأبناء ”أباهم الذي في السماء“، إنما قتلوا تجلياته ”السياسية“، أو منحوها إقامة جبرية.
٨
بعد أن اكتشف أوديب الحقيقة. وأنه بموجب ما حكم به على نفسه يجب أن ينفى من البلاد ويفقد الملك، هرول باحثا عن السلطة، عن أمه/زوجته، فوجدها مشنوقة. فقدها وفقد شرعية حكمه. خلع دبابيس الدهب التي تحكم ثوبها وفقأ بها عينيه. ثم سأل ابناءه أن يرشدوه الطريق.
تعاهد ابناه، أخواه، الذكران، من بعده على أن يصلحوا الحكم، بتبادل “أرستقراطي” للسلطة التي ورثاها عن “الأخ الأب”، هذا عام ثم ذاك عام. لكن ماذا تتوقعون. رفض الأخ الذي تولى السلطة أولا أن يتنازل عن الكرسي. واستمر الصراع.
النظام السوفييتي سقط.
٩
جورج أورويل كتب ١٩٨٤ وهي أشهر رواية لمكافحة النظم الشمولية، النظم التي تحاول أن تتحكم في كل حياتك، العامة، والخاصة، وتتحكم في ما يدور في عقلك. هذا مشهور. لكن ما لا يعلمه كثيرون هو دور جورج أورويل الآخر في مكافحة الشيوعية. حيث كان مؤلف “١٩٨٤” متعاونا مع المخابرات البريطانية في ملاحقة الشيوعيين المتخفين، وتقصيهم في كل مؤسسة، وقام هو نفسه بتسليم أسماء من يشك بأنهم شيوعيون. لقد رأى فيهم خطرا بالغا على الحياة السياسية، لا يمانع معه في التعامل مع إجراءات أمنية لملاحقتهم. لقد تسامح هو نفسه مع درجة من القمع، لمواجهة قمع أشد ضراوة.
العجلة تدور بزيادات طفيفة
تفسيرات كثيرة سيقت لاستخدام جورج أورويل لعبارة ”الأخ الأكبر“ في روايته الشهيرة ١٩٨٤، أكثر التفسيرات وضوحا أنه استلهم العبارة من إعلان لشركة تقدم كورسات تعليمية بالمراسلة. وفي الإعلان صورة لصاحب الشركة، وهو رجل كبير السن، سمح الهيئة، مكتوب تحتها ”اسمح لي أن أكون أباك“.
وحين مات صاحب الشركة وتولى ابنه مسؤوليتها استخدم نفس النمط في الإعلان، ولكن بصورته هو، مكتوب تحتها، ”اسمح لي أن أكون أخاك الأكبر“.
أما مقالي هذا فقد حاولت فيه أن أبحث عن ما لم يدركه أورويل نفسه حين أعجب بالصيغة الإعلانية. إنه شيء موجود في ذاكرتنا النفسية، والاجتماعية، والسياسية. الأخ الأكبر. قاتل الأب. الذي يظل أخا، لكنه أيضا ”الأب“. ويقيم نظاما لا يختلف عن النظام السياسي الذي أقامه الأب إلا في تغييب الأب.
أهلا وسهلا برأيك