مقالات هتعجبك

الخيال والحقيقة في عقل ناشط سياسي من الطبقة الوسطى

هل هناك سياسي على وجه الأرض يقول إنه يريد بنا شرا؟ مستحيل. المشكلة ليست في ما يقوله السياسيون، بل في ما يتخيلونه. هذا ما دمر بلادا بالاشتراكية ومشتقاتها

١

لو كان لدى الريفيين الإنجليز في القرون الوسطى فرصة اختيار قائد، لاختاروا شخصا واحدا. هذه مواصفاته:

ينتمي إلى الطبقة الوسطى. مهندم، طيب. يحب العدل. يتحدى السلطة، ويتحدى الإقطاع. ويجيد استخدام السلاح، بالتحديد القوس والسهم، لأنه السلاح الذي يمكنه من الاختباء والقنص من بعيد، ثم معاودة رحلة ”الخروج على القانون“، بكل ما أحيطت به من جو رومانسي. بتعبير آخر. يجيد ”حرب العصابات“.

كيف عرفت أنا ذلك. من حكاياتهم وأغانيهم، من تلك الشخصية التي أشعلت خيالهم فأعطوها تلك الصفات. من شخصية روبن هود.

٢

كانت إنجلترا في الفترة المشار إليها بدءا من القرن الحادي عشر صعودا بلدا زراعيا فقيرا. لغة البلاط الحاكم فيها فرنسية منذ غزتها قوات ويليام الفاتح في ١٠٦٦.

لو تخيلنا أن نوتنجهام التي جرت فيها الوقائع المسجلة باسم أهازيج روبن هود، (زي سيرة الهلالي كده)، مساحة أرضها المزروعة ١٠ وحدات. سيتكون المجتمع من طبقتين أساسيتين. طبقة من الملاك، النبلاء، لدى كل منهم عدد من وحدات المساحة الأفقية تلك، وطبقة المزارعين الأجراء، وهم لا يملكون شيئا، وظيفتهم فقط العمل في الأرض.

الطريقة الوحيدة لزيادة الثروة هي اكتساب مزيد من المساحة الأفقية، بالحرب، أو بالشراء. نسمي هذا النمو ”الأفقي“ للثروة، لكي يختلف عن النمو ”الرأسي“ لها، والذي شاع لاحقا مع تطور وسائل إنتاج الثروة، وعرف باسم ”الرأسمالية“.

فلنبق في هذه الفترة. فيها بدأت في الظهور طبقة جديدة غير الطبقتين المشار إليهما. طبقة اسمها اليُومن“ Yeoman

٣

شراء حصان حرب في إنجلترا في ذلك الزمان كان يكلف ما يوازي ٦٠٠ إلى ٨٠٠ ألف جنيه إسترليني، . الأحصنة حيوانات كانت تعيش في الأمريكتين ووصلت إلى وسط آسيا في العصر الجليدي. وبسببها، مع اختراع العجلة، تفوقت تلك المنطقة وعظمت قوتهم، فتغلبت على حضارات قديمة. الهكسوس مثلا تغلبوا على المصريين واحتلوا مصر.

ويليام الفاتح حين غزا إنجلترا كان جيشه القادم من طريق البحر مكونا من سلاح فرسان، وسلاح مشاة، وسلاح رماة بالقوس والسهم. لم يكن القوس والسهم شيئا جديدا. لكنه في ذلك الزمن تطور تطورا كبيرا.

لماذا؟

لأنه كان من الصعب جدا على دولة فقيرة كإنجلترا أن تجهز جيشا من الفرسان. أشرت إلى ثمن الخيل الحربي، لكن الأكثر منه تكلفة العناية به. وتكلفة نقله إلى أماكن الحروب. فهذا الخيل بسلامته لم يكن مناسبا للسفر بسبب طريقة مشيه وركضه، هذا مناسب جدا للحروب، أما في المشي فيشبه السفر بسيارة بطيئة فوق مطبات صناعية، وفي الركض يشبه طوافات الملاهي. هناك نوع ثان من الخيول أقرب في حجمها ومشيها إلى الحمار كانت تستخدم لذلك الغرض. هذا بالنسبة للخيل. أما الفارس الذي يمتطي الخيل فيلبس درعا من المعدن منسوجا، إن جاز التعبير، يدويا على شكل حلقات معدنية متداخلة، لكي يظل مرنا لا يعوق الحركة، لكنه صلب يحمي الجسم. ويحتاج تحته إلى بطانة من مادة تمتص الضربات، وتفصل بين الحلقات المعدنية والجسم. هذا نفسه يحتاج إلى ثروة. ولم نتحدث بعد عن الدرع اليدوي والسيف والخوذة. لكن الصورة وصلت. الفارس عبارة عن ثروة متحركة. يمكن أن تضيع بضربة واحدة.

لهذا نشأت في إنجلترا طبقة اليومن المشار إليها. وانتشرت في إنجلترا تدريبات القتال. وفي كثير من الأحيان كان القائمون على تدريبات القتال هؤلاء رهبانا يخرجون طاقتهم في مهنة ذكورية تماما ”تربي رجالة مش خرعين“.

الأسلحة التي انتشر التدريب عليها في أوساط الشباب الطامحين إلى الانتقال من صفوف عمالة الزراعة إلى صفوف المقاتلين، وبالتالي الحصول على أجر جيد، تراوحت بين ”الزانة القتالية“، وهي عصا غليظة وثقيلة أطول من حاملها، تمسك من المنتصف بكلتا اليدين، وبحركة مروحية تدافع وتضرب. وهناك ”الخنجر النصفي“، حيث كانت أطوال الأسلحة إشارة إلى الطبقة الاجتماعية لحاملها، وحمل السيوف الطويلة كان قاصرا على الفرسان النبلاء. أما السلاح الثالث فكان الأشد حظوة في سوق العمل. وهو سلاح السهم والقوس. أصحاب مهارة التصويب الجيد بالسهم والقوس، أولئك القادرون من بعيد على اقتناص فرسان العدو، دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة، مطلوبون جدا في السوق ويحصلون على مبالغ لا بأس بها. من هنا جاء التعبير، Yeoman Bowman، اليومن حامل القوس. وازدهرت صناعة القوس، والسهم، وتفنن فيه صانعوه، وتعددت أشكاله وأغراضه وأثمانه. فكان بعضها مصمما لاختراق الدروع، لكنه كان ذخيرة باهظة الثمن ينبغي الحفاظ عليها وعدم تسليمها إلا إلى المهرة من الرماة.

مثل روبن هود.

٤

احتاجت إنجلترا إلى حملة الأقواس والسهام (الرماة) بشدة في حروب ريتشارد قلب الأسد ضد منافسيه حكام المقاطعات القريبة في فرنسا، ثم، وهذا الأهم، في الحملة الصليبية الثالثة. لاسترداد بيت المقدس من أيدي المسلمين. الحملة التي استمرت من ١١٨٩ إلى ١١٩٢.

بعد عودة الحملة صار هؤلاء المحاربون من طبقة اليومن يشكلون ما يمكن اعتباره نواة لـ ”طبقة وسطى“. وهو مفهوم حديث بعرف تلك الأيام. هؤلاء الذين يحضرون مجالس النبلاء، لكنهم ليسوا منهم. ولكنهم أيضا ليسوا من طبقة أجراء الأرض.

بعد سبع سنوات من الحملة الصليبية، قبل الـ ١٢٠٠ بعام واحد، قتل ريتشارد قلب الأسد. وتولى أخوه الملك جون الحكم. وكان حاكما أحمق، يريد أن يتضخم عن ظل أخيه لكن بحروب لا يملك فيها ما كان لأخيه من البراعة. وبسبب التكلفة العليا لـ ”هزائمه“ رفع الضرائب إلى حوالي مئة ضعف. وضج الجميع. حتى طبقة النبلاء. وبدأ الصراع.

وتخيل الريفيون أن حسمه يحتاج إلى أمثال روبن هود، ينحازون لهم.

٥

صاغ الخيال الريفي الخلاص إذن في شخص علي بن الجنايني ولكن النسخة الإنجليزية، حامل القوس، الذي يقتنص ”العدل“ بالعرف لا القانون. الذي يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء. الذي يشكل تنظيما سريا خارجا على القانون، كغيرها من التنظيمات المنتشرة في الغابات وقتها، تضرب النبلاء، ولكن لا مانع أيضا من أن تضرب الطبقة الوسطى الصاعدة من التجار، الذين يتنقلون ببضائعهم عبر أوروبا.

الناظر إلى عناصر هذا الخيال سيجد فيه تشابها كبيرا عن شكل الدول التي انبثقت عن مجتمعات زراعية. الدول التي حققت – فعلا – خيال الريفيين الإنجليز في القرون الوسطى. فتولى فيها روبن هود، بتفاصيل تتنوع، الحكم. ونفذ ما تمنته.

رام يجيد استخدام سلاحه، لكننا لا نعرف ماذا يجيد غير ذلك، ويقيم ”العدل“ بلا مناقشة لأي فلسفة تخصه، بل العدل من وجهة نظر “الريف الإنجليزي”.

لكن الغريب أن روبن هود، في الدول التي حكمها، وأقام قانونه بالفعل، لا تكفيه عقود خلف عقود، لكي ينجز مهمته. بل خلف كل روبن هود يموت، روبن هود جديد. وشاعر جديد. وحالم جديد. ومدع جديد. وناشط سياسي جديد، يبشر بالعالم السعيد.

وسوف يستمر هذا إلى الأبد، طالما استمر الريف، في القرن الواحد والعشرين، هو مركز التفكير المجتمعي، ومعيار قيمه، ومحور حكمه.

٦

أما كارثة الكوارث يا قوم.

أن الخيال مستمر وقد تغير الزمان تغيرا كبيرا عن ما كان عليه في إنجلترا القرن الثالث عشر.

اندثر مفهوم الثروة الأفقية. ولم يعد ممكنا اكتناز الثروة ولا صار له معنى. حيث الثروة، لكي تستمر، لا بد أن تستثمر، وحين تستثمر، تحتاج إلى عمالة أكثر، في مختلف الدرجات، من حارس الموقع، إلى مدرائه التنفيذيين. كل هؤلاء يستفيدون من الاستثمار الرأسي للثروة. وكل شخص في هذه السلسلة يختاره صاحب المال بلا عناية يتحول إلى ثغرة يفقد منها صاحب المال ماله.

هذا مهم. طالما كان صاحب المال هو الذي يدير ماله.

أما إن كان روبن هود ورفاقه هم مديري المال، فسوف تستمر فلسفة إدارته حول نفس المحور. ”التصدق“ من مال الأغنياء على الفقراء. التصدق بالتشغيل. التصدق بدعم ثمن المنتج، ثم تحصيل فارق الثمن بمزيد من الضرائب.

كلها أسماء إجراءات، جوهرها نفس القصة الريفية الخيالية، عن روبن هود.

الروبن هودية الجديدة روبن هودية كاذبة إذن. الخناقة فيها ليست على توزيع الثروة، فما من توزيع للثروة أفضل من الاستثمار الناجح لها باستخدام ذوي الكفاءات وتشغيلهم. بل الخناقة على “احتكار إدارة الثروة”.

هل تدار الثروة من قبل خبراء في مجالهم، من مصلحتهم أن تربح؟ كأصحاب رأس المال، أو المستثمرين التابعين للمصارف، أو الشركات التي تقترض من هذه المصارف؟

أم يدير الثروة روبن هود؟ الذي مهارته الأساسية أنه يجيد حمل السلاح؟ لكنه لا يجيد الاستثمار، ولا يفهمه.

٧

ثم الأغرب أن الريف الإنجليزي، صاحب هذه الحكاية، لم يحكمه روبن هود أبدا.

هذا يقتضي أن نستأنف القصة من حيث توقفنا. حين فرض الملك جون هذه الإجراءات كان في مقدمة المتصارعين معه النبلاء أنفسهم. وكتبوا معه سنة ١٢١٥ ”الوثيقة العظمى“ المعروفة باسم الماجنا كارتا. أبرز ما فيها أن الحاكم ليس فوق القانون، وهذا تغير لو تعلمون عظيم، بالنسبة لذلك الزمان، الذي كان الحاكم فيه مالك الأرض الفعلي. كما حافظت على الملكية الخاصة، وعلى حكم القانون.

هذا طبعا اختصار كبير. لأن الماجنا كارتا تطورت عبر التاريخ. لكن الأهم أن هذا التطور لم يحدث عن طريق روبن هود، بل بجهود الشريحة التي صارت معروفة باسم الطبقة الوسطى. ومعظمها من التجار الذين مكنتهم حرية التجارة، ورعاية الملكية الخاصة، من التطور. من أبناء طبقة عاملة إلى ذوي أملاك استفادوا من تحرر التجارة. وغيروا بأفكارهم العقيدة الاجتماعية في أكثر من وجه. الإصلاحات البروتستانتية في الجانب الديني، بالتركيز على الفردية. والعالمانية والرأسمالية في الجانب السياسي الاقتصادي.

الفئات التي كانت هدفا للتنظيمات التي صيغت منها حكايات روبن هود وتنظيمه هي التي قادت التغيير إلى العالم الذي نعرفه الآن. تلك الجزيرة الصغيرة انطلقت من القرن السادس عشر لكي تقدم للعالم نصف الاختراعات والابتكارات العلمية التي نعرفها إلى يومنا هذا. وتقدم للعالم الفلسفة العملية التجريبية، والثورة العلمية.

ثم تطور كل هذا في بلد عظيم آخر تأسس على نفس الفلسفة وطورها، هو الولايات المتحدة الأمريكية.

٨

النشط السياسي المنتمي إلى الطبقة الوسطى، في عصرنا الحالي، في مصر، يريد أن يتجاوز ذلك كله، ويرتد إلى نفس الفكر الريفي. ولو بحثت في جوهر خطابه لوجدته يتخيل نفسه في صورة روبن هود. دون أن يدري أن خيال القرن الثالث عشر، إن طبقناه في القرن الواحد والعشرين، فلن نحصل على نظام حكم يتجاوز القرن الثالث عشر.

النشط السياسي الروبن هودي، في مصر، في القرن الواحد والعشرين، حين يتشارك في خياله مع خيال الريفي الإنجليزي ابن القرن الثالث عشر، يفقد كل عذر يمكن أن نعذره به.

اولا: لأنه ابن القرن الواحد والعشرين. يعرف القراءة والكتابة، وليس أميا، كفئة الفلاحين الإنجليز قبل تسعة قرون.

 ثانيا: أنه يدعو لدولة القانون. ولا يدري أن الأساس الفلسفي للقانون هو تجاوز العدل العرفي الذي تصوغه عقول الأميين إلى العدل المركب. يبدو ناشطنا العزيز لم يقرأ حتى كتب رموزه مثل كتاب ميشيل فوكو الثواب والعقاب وولادة السجن.

والسبب في ذلك كله أن ابن الحداثة هذا غير قادر على فهم الفارق. ذلك انه – كما لقنه شيخ الجامع ولقنه مدرس المدرسة وتليفزيون الدولة – يعتقد أن الحداثة آلات حديثة، لو أخذناها واحتفظنا بنفس نظرتنا للحياة فقد حزنا المجد من أطرافه. الم اقل لكم متعلمون أميون.

التطور فلسفة. في العلم، وفي الفن وفي الاجتماع والسياسة.

مقدمات أغاني الدراما التليفزيونية، ومسلسلات أسامة أنور عكاشة، ومواويل شفيقة ومتولي، وأغاني الشيخ أمام، وأشعار أحمد فؤاد نجم، كلها تحتاج إلى نقد اجتماعي وقيمي.

خلط القيم القديمة بالموسيقى لا يجعلك إنسانا عصريا. اعتقاد أن أهل القمة ”فاسدون“ بالضرورة، هو الخطوة الأولى في الاعتقاد بوجوب تدمير الوضع القائم تنفيذا لرغبة علوية. أحمد بن شبيب لو عاش حاليا ليس فارسا ولا فاردا في الجبل طوله. انظر إلى قيمك، وخيالك، إلى أي زمان ينتمي. فسوف تخلق دولة تنتمي إلى ذلك الزمان.

٩

بالمناسبة. هل يفكر هذا الناشط أن روبن هود في عرف زماننا إرهابي، أو مجرم؟ صعب.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading