مقالات هتعجبك

الإخوان المسلمون يعرفون أفلاطون وأرسطو: أنفاق غزة مثالا

رحلة تكذيب الحواس تأخذنا الآن إلى أنفاق غزة، حيث الثمن المدفوع من نجاح الإخوان المسلمين في دفعنا إلى تكذيب أعيننا فادح. والكاسب الوحيد واضح

رحلة تكذيب الحواس: المقال الثالث

١

تعيش في شقة. يجاورك فيها شقق سكانها من جنسيات مختلفة. من منهم تترك معه نسخة من مفتاح بيتك؟

ليس هذا قرارا هينا، ولا يمكن أن تتعامل معه باستخفاف. لماذا؟ لأنه قرار يؤثر مباشرة على أمنك وأمن من تتحمل مسؤوليتهم. بالإضافة إلى ممتلكاتك الشخصية. لذلك لن تقدم على هذه الخطوة إلا مع طرف اختبرت سلوكه فلم تجد فيه ما يريب. وغالبا تفضل أن تفعل هذا مع شخص يبادلك ثقة بثقة، فيسلمك هو أيضا نسخة من مفتاح شقته للطوارئ. أي يبادلك مصلحة بمصلحة. في رسالة يقول لك فيها إنني مؤتمن على مصالحك، لأن مصالحي هي الأخرى تحت يدك.

ربما لو كنت جديدا ولا خبرة لديك، ستفضل أن تبحث عن شخص تشعر معه بالقربى لأسباب معنوية. وربما تثبت لك الأيام صواب هذا القرار أو عدمه.

لكن المهم. أن المعيار الرئيسي لن يكون الاعتبارات المعنوية، وجدت أم لا، بل معيار التجربة الواقعي.

ليس هناك أبسط ولا أوضح من هذا التفكير.

هو نفس التفكير الذي ستلجأ إليه لو كان لديك مشروع خاص وضعت فيه ثروتك، وتريد الآن أن تشغل فيه من يعاونك ستختار الأفضل للعمل، وإلا ضاعت أموالك.

الملكية، الشخصية أو المادية، تدفعك إلى التفكير بجدية في قراراك.

هذا أيضا – بتبسيط شديد – أحد الاختلافات الرئيسية بين أفلاطون وأرسطو في نظريتهم عن  شكل المجتمع “السعيد”. أفلاطون في مدينته المتخيلة يرى أن إبطال النظام الأسري، ونزع الملكية الخاصة، إجراءان أساسيان للتغلب على أنانية الإنسان، وإقامة المدينة المثالية.

أما أرسطو فيرى أن طبائع البشر هي معادنهم، مادة شخصياتهم، ولا مجال لمحوها من المعادلة. كل طبيعة بشرية درجات. الشجاعة قد تنحو نحو التهور وقد تنحو نحو الجبن، وقد تكون متزنة. وحب النفس، الأنانية، قد تنحو نحو الجشع، وقد تنحو نحو الاستهتار والسفه، وقد تكون درجات فيما بينهما. لكن الجوهر موجود في كل الأحوال. ووظيفة الإدارة والأخلاق الاجتماعية أن توجهه، لا أن تلغيه، بحسن الإداراة، وبقواعد التعامل (القانون).

وفي السياسة الحديثة بنيت النظم السياسية على تقديس الملكية الخاصة، بسبب منفعة تعود على المجتمع منها. إذ إن قرارات المجتمع ليست قرارات حكوماته، بل حصيلة لقرارات أفراده. لو أن عددا أكبر من هؤلاء الأفراد له ملكية خاصة، ولو شقة في بناية، هذا يعني أنه سيكون أكثر مسؤولية في قراراته، لأنه سيتأثر بمردود هذه القرارات اقتصاديا. التضخم سيؤثر على القيمة السوقية لشيء يملكه، وارتفاع سعر الفائدة سيجعله يدفع فائدة ديون أكبر على أقساط الشقة، إلى آخره.

وهكذا القرارات بالنسبة للأسرة. وجود أطفال في كفالة آباء ينتمون إليهم يضمن لهم، بالطباع البشرية، أفضل قدر ممكن من الرعاية.

واتسع هذا المفهوم حديثا ليكون الدولة الوطنية. الحدود الوطنية التي يمتلكها مواطنوها. هذه هي الدولة الحديثة. ليس لدينا أفضل نماذجها في المنطقة العربية، لكن، على الأقل، لدينا بعض مفاهيمها، ونقول إننا نسعى نحوه، لا في الاتجاه الآخر، نقول إننا نحاول سد نقائصها.

ما يهمنا هنا أنه في هذه الدولة الوطنية يسعى مواطنوها إلى تحقيق المصلحة العامة الأساسية، كسلامة الحدود، والأمن، والرخاء.

قد يختلفون حول تحقيق أي من هذه المصالح، لكنهم لا يستهدفونها بالضرر استهدافا مباشرا.. أتمنى أن يكون الفرق واضحا.

٢

الأمن القومي للدول مع جوارها يبنى بنفس الطريقة التي ضربتها في المثل الأعلى، وإن كان على نطاق أوسع. هذه المرة دولة وسط مجموعة من الدول، بدلا من أسرة وسط مجموعة من الأسر. أو شقة وسط مجموعة من الشقق.

تلعب العوامل المعنوية، اللغة والدين، دورا أيضا، لكنه ليس الدور الوحيد. الأهم منه عامل خبرة الجيرة، والسلوك السياسي، والمصالح المشتركة، وتبادل إجراءات الثقة.

لو كنت تتعامل مع بلدك، بنفس درجة الحرص التي تتعامل بها مع ممتلكاتك، فسوف تجري نفس الطريقة. الأهم في تكوين رأيك السياسي واختيارك سلوكك وتحالفاتك هو الوقائع على الأرض. لا تتعامل مع بلدك كأنها شقة مستأجرة. أو أسوأ. كأنها شقة مالكها في الأستانة أو غيرها وتريد أن تعيدها إليه.

تستخدم كلمة وطنية بمعان معنوية كثيرة. لا يهمني هنا أي منها. ما يهمني هنا كلمة وطنية بمعنى الانتماء إلى الحدود الجغرافية، في مقابل الانتماء العقيدي السياسي المتعدي للحدود الجغرافية.

 ليس هذا أمرا هينا. ولا هو شعار منفرد. بل يؤثر في مختلف نواحي الحياة. على سبيل المثال: هذا الانتماء الوطني يرافقه انتماء قانوني يعتقد أن أهل الوطن متساوون أمام القانون (في حين أن الانتماء العقيدي السياسي يعتقد أن الناس مقسمون درجات حسب عقائدهم)، وهذا الانتماء الوطني يوازيه الانتماء لقيمة سيادة القانون (في حين أن الانتماء السياسي العقيدي يضع أحكام العقيدة أو الدين الذي تنتمي إليه فوق حكم القانون في التعاملات مع الآخرين)

لو نظرت مليا، ببعض اهتمام وتدقيق، ستجد أن القيمتين المشار إليهما بين القوسين يقعان ضمن مجموعة قيم يدعو إليها الإخوان المسلمون وغيرهم من الجماعات الدينية السياسية. يدعون إليها باهتمام، ولا يفوتون فرصة لكي يرسخوها ويؤكدوا عليها. ربما يروق الأمر لك وأنت في مجتمع إسلامي. ولكن كيف الحال لو كنت أقلية مسلمة في دولة أخرى وأجرى عليك الآخرون أحكامهم الدينية لا أحكامهم القانونية!! هنا ستدرك الفارق بين الدولة الوطنية، وبين دولة أفغانستان طالبان. أو دولة داعش التي تأسر الأزيديات وتغتصبهن انطلاقا من أحكام قديمة، من عصر ”الدول“ الدينية.

تماشيا مع هذا أيضا ستعرف مدى اهتمام الإخوان المسلمين بدولة مصر، الموضوع جذري. تعالوا نختبر هذا في موضوع العلاقة بين مصر وغزة. سنختار قضية الأنفاق، وهي قضية أثيرت سابقا، ثم أثيرت مؤخرا، بعد الهجوم الذي وقع على سيناء وأودى بحياة ٢٣ مواطنا مصريا. من المهم أن نحكم على الاختيارات السياسية بفهم أغراضها الواقعية.

٣

شكلت الأنفاق، وعددها يتراوح بين ٥٠٠ و ١٥٠٠ – نعم إلى هذا الحد تختلف التقديرات – عنصرا مهما للحياة في غزة. كانت طريقة لنقل البضائع ومن ثم المساهمة في رفع المعاناة عن المواطنين هناك. بدافع من حسن الجيرة، وربما مصالح سياسية أيضا، لاعتبارات تتعلق بأن غزة امتداد لأمن مصر القومي، وبعض العائلات ممتدة على طرفي رفح الفلسطينية والمصرية. التداخل هناك يتجاوز روابط كثيرة. مصر خاضت حروبا من أجل فلسطين. وأبناؤها دفعوا حياتهم في هذه الحروب.

الأنفاق تختلف في سعتها. منها ما لا يسمح إلا بمرور بضائع محملة على حقيبة من الكاوتشوك تسع فردا متمددا، ومنها ما يسمح لشاحنة نصف نقل بالمرور خلاله. وكون هذه الأنفاق استخدمت لنقل البضائع فقد فتحت فرصا للثراء لأشخاص عبر الحدود، وفتحت موارد كسب لأسر غزاوية عبر توفير فرصة عمل لعدد من العمال الفلسطينيين، أو بضائع لأصحاب متاجر.

لكنها أيضا فتحت ثغرة أمنية بدأت في التزايد منذ سيطرت حركة حماس على غزة.، ولا سيما أن حماس ليست حليفا سياسيا لمصر، بل إن سيطرتها على القطاع جاءت بدعم إيراني ردا لجميل دعم حلف الإخوان لها في خطوتين مهمتين. أولهما التغطية السياسية على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري من أجل القضاء على النفوذ السياسي السعودي في لبنان. وثانيهما الدعم السياسي في حرب تموز التي أثارها الحلف الممثل لشيعة لبنان لحساب إيران وسورية.

ووصلت الثغرة الأمنية إلى نقطة كان لا بد للدولة المصرية من التدخل لسدها. إلى نقطة لا يمكن السكوت عنها. وطرح أكثر من اقتراح، بعضها يعتمد على رادار يرصد الحركة، وبعضها يعتمد على إرسال موجات صوتية تدرك الفراغ، وبعضها تقليدي يعتمد على مسح جغرافي. وأحد تلك الحلول كان بناء جدار سفلي، يصل إلى عمق ١٨ مترا، ومزود بمضخات مياه تتسبب في إغراق الأنفاق.

٤

بمجرد الشروع في هذه الحلول الضرورية انتفضت جماعات داخل مصر ترفضها. أولهم الإخوان المسلمون. لكن أيضا جماعات قومية ويسارية عروبية.

سأكتفي بالنسبة للقوى القومية واليسارية أن أقول إن ما يزعجني سياسيا أن هذه القوى لم تحاول أن تقدم الموضوع كما هو، بمعنى أن يكون خطابها موجها في الأساس إلى حماية مصر وأمنها. ثم يأتي ما بعد ذلك من اعتبارات لها وجهة نظر، كرفع المعاناة عن شعب غزة. اكتفت هذه القوى بالخطاب المعنوي ”العلوي“، ولم تكلف نفسها بالبحث في الوقائع المادية على الأرض. كما لم تلتفت لمآلات القضية الفلسطينية السابقة، في أكثر من بلد، حين أغفلت الحد الفاصل بين الشعارات وبين المصالح الوطنية للدول. سواء في الأردن أو لبنان.

أريد أن أقول، إن هذا الخطاب العروبي، وإن كان شعاره مصلحة الفلسطينيين، يمكن أن يفضي إلى خسارة أكبر للفلسطينيين. كما هو الحال في التفكير السياسي الأفلاطوني بشكل عام.

أما الإخوان فالموضوع أكبر من ذلك. هذا مخطط ظهر أثره تباعا. رأينا الدور الذي لعبته الأنفاق في ٢٠١١. وكيف أن لجماعات إيران، كحزب الله، والمتعاونين معها، كحماس والإخوان، يدا نافذة داخل مصر. استطاعت أن تطلق سراح خلية حزب الله وأن تهربها إلى الخارج عبر الأنفاق الفلسطينية.

ورأينا الدور الذي لعبته الأنفاق في تهريب السلاح والإرهابيين إلى داخل مصر. ثم في تنفيذ هجمات على الجيش المصري.

هنا لن ننظر إلى الإخوان بوصفهم أفلاطونيين شعاراتيين. بالعكس. الإخوان على العكس من ذلك تماما. الإخوان يستغلون الشعارات بمنتهى البراجماتية. تشبه براجماتية حزب الله.

البعد الديني السياسي عند الإخوان له شقان.

أولا: شق يعرفه أعضاء الجماعة

هؤلاء لا تمثل لهم الحدود الجغرافية لمصر أي أهمية تذكر، بل مصر بالنسبة لهم شقة مستولى عليها، يعيشون فيها، ولكن يضطلعون بمهمة إعادتها إلى مالكها الأصلي، خليفة الله.

أحد تكتيكاتهم في ذلك أن يحولوا الحياة في الشقة – حياتنا نحن – إلى جحيم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وأن يتحالفوا مع أي قوة تساعدهم على ذلك. وفي نفس الوقت يحوزون من محتويات الشقة لصالحهم ما يستطيعون، تحينا لساعة عودة المالك المنتظر. سواء كان واحدا منهم، أو قادما من مملكة الإسلام.

في هذا السياق غزة أهم لهم من مصر. غزة دولة إسلام تسيطر عليها حماس.

لا بد هنا أن ننتبه إلى أن غزة أهم لهم من مصر. وليس الفلسطينيون. هذا مهم لكي نفهم لماذا وجهت كلامي إلى ”العروبيين واليساريين“ منفردا عن الإخوان. العروبيون واليساريون تهمهم مصلحة الفلسطينيين كشعب. الإخوان لا يهمهم ذلك. ولنتذكر أنهم حتى لم يبالوا بمقتل فلسطينيين في غزة وسحلهم في الشوارع. لماذا؟ لأن الجنسية الوطنية لا تهمهم. ما دام المنتصر هم ”جند الإسلام“. هذا يقودنا إلى الشق الثاني من البعد السياسي الديني.

ثانيا: الشق الموجه إلى غير الإخوان

يعتمدون فيه على المشاعر الشائعة. المشاعر القومية تجاه فلسطين أشرت إليها سابقا. وهي مشاعر أكثر اتساعا من الانتماء الحزبي. بمعنى أنها موجهة لجموع الشعب خارج دائرة نشطاء السياسة من القوى العروبية واليسارية. وطبعا المشاعر الدينية. هنا سيتذكرون أن أهل غزة مسلمون (لم يتذكروا هذا حين فعلوا مع فتح ما فعلوا) وسيثيرون المشاعر الإسلامية. ستتحول القضية إلى فلسطينيين مقابل إسرائيلييين. أو مسلمين مقابل يهود. وستوضع مصر في أحد الطرفين.  وبهذا يستطيعون أن يحدثوا ثغرة، تمنعنا من التفكير العقلاني المنطقي، تمنعنا من الحكم بالوقائع المادية. لنفيق وقد اقتحمت الشقة وتضررت العائلة.

هذه لمحات من الحملة التي شنها الإخوان ضد إجراءت سد الأنفاق في ٢٠١٠، وهي الحملة التي رددها خلفهم نشطاء اليسار والعروبيين، بنفس الألفاظ، تعبير بسيط يلتصق في الأذهان ويسهل ترديده، ويكتبه كل من يتحدث عن الموضوع حتى تشعر أن عناوين المقالات مكررة. ولاحظوا كيف نسوا فيها كرههم لجمال عبد الناصر لكي يخاطبوا القوميين. وكيف استخدموا فيها الفتاوى لكي يخاطبوا المشاعر الدينية، الشقين اللذين تحدثت عنهما. ا

screenshot 10.png

screenshot 11.png

screenshot 12.png

لا نزال إذن في هذا الحديث حول أرسطو مقابل أفلاطون في السياسة. هل ننظر إلى الوقاع المادية. أم نسعى فقط لتغليب ”قيم علوية“؟ لكننا هنا رأينا مثلا ثالثا، الإخوان، هؤلاء الذين يستخدمون القيم العلوية ظاهريا، ولكن الباطن براجماتي بحت. ما بين هذا الظاهر والباطن تحدث صدمة الناس من الجماعات الدينية السياسية حين تصل إلى الحكم. أما من يعرفهم. فلا ينصدم منهم أبدا. ويحذر منهم أزلا أبدا.

كل ما علينا، حين نتكلم في السياسة، أن نغير اتجاه نظرنا قليلا. إلى الوقائع المادية على الأرض. حيث تشير راحة أرسطو. ولا ننخدع أو نتشتت بأصبع مرفوع إلى السماء. كأصبع أفلاطون. وإلا سنخسر حتما.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading