الطريق إلى تطوير السياسة العربية مرسوم في لوحة من القرون الوسطى
رحلة تكذيب الحواس: المقال الأول
الصورة التي رسمها رافاييل في القرن السادس عشر تلخص ببصيرة مبهرة تاريخ التفكير في العالم. على اليسار أفلاطون، يشير بأصبعه إلى أعلى، وعلى اليمين أرسطو يشير بيده إلى الأرض.
ما من خلاف في طريقة التفكير السياسي إلا ومرده إلى هذه الصورة البسيطة. لو ركزنا في قضايا الشرق الأوسط على فئة أصحاب الآراء المجردة (أي باستثناء أصحاب الدوافع المباشرة) سنرى عجبا. ستقف عاجزا عن اكتشاف الأساس الذي بنوا عليه منطقهم. وستقف عاجزا عن فهم السبب الذي يجعل رأيا كهذا هو الأكثر انتشارا.
لكن العجب سيزول إن فهمنا هذه اللوحة ومعناها. ثم طبقنا هذا على قضايا مختلفة تعرض لنا.
أفلاطون رائد مدرسة في المعرفة تنطلق من عالم الفكرة، العالم العلوي الذي لا نستطيع أن نتحقق منه بالتجربة. وبالتالي حين كتب في السياسة كتب كتابا عنوانه “الجمهورية”، وعرض فيها فكرته الخاصة والمشهورة بـ “المدينة الفاضلة”. المدينة التي لم تكن في أي مكان، لكنه تخيلها، وفكر فيها من كافة الجوانب، فوجد أنها لو تحققت ستكون الأفضل. مدينة تستدعي ”السمو“ فوق الطباع البشرية “السيئة” – كالأنانية والتملك، بأن تبني نظاما لا أسرة فيه ولا ملكية.
أرسطو طبعا لم يعجبه هذا الكلام، رغم أنه كان تلميذا لأفلاطون.
أرسطو يعتقد أننا نبحث عن المعرفة في ”الموجود فعلا“، ما نستطيع أن ندركه بحواسنا، ما نخبره ونتبادله. وهكذا ارتكزت فكرته في الإدارة السياسية على حكومة قادرة على الفعل انطلاقا مما لديها، واخذة في الاعتبار طبائع البشر كما هي، بكل تنوعاتها. براعة هذه الحكومة في القدرة على تحريك عوامل الواقع، وتوجيهها للحصول على أفضل نتائج، وليس فرض وضع متخيل.
أرسطو لم يكن غريبا عن المنطقة العربية، لكنه اضطهد
ازدهرت كتابات أفلاطون وسافرت عبر العصور لسببين. أولهما جمال الكتابة. القدرة البلاغية والغموض الفني المحبب. وثانيهما أنها الأقرب – في جوهرها – لفكرة الهندسة الاجتماعية التي تبنتها الأديان في القرون الوسطى. هناك فارق طبعا أن أفلاطون كان يصوغ التصميم بعقله البشري، والأديان تصوغه بوحي سماوي. لكن جوهر الفكرة أن هناك صيغة للمجتمع أفضل، مسودتها موجودة عندنا، حين نحوز السلطة سنبنيها ونصنع مجتمعا سعيدا، متغلبا على “النقائص” البشرية.
كتابات أرسطو، على العكس، لم يبق منها إلا حوالي عشرين في المئة. وكان يمكن أن تندثر تماما لولا مناصرون غير متوقعين على الإطلاق، وهم المثقفون العالمانيون في الحضارة العربية، ابن رشد وابن سينا، ومعهم ابن ميمون. كان هؤلاء الفلاسفة، المغضوب عليهم من رجال الدين (يمكن مراجعة مصائرهم)، مفتونين بأرسطو، حتى أنهم سموه “المعلم الأكبر”. وبالتالي اهتموا بترجمة كتبه إلى العربية.
مع بدايات عصر الإصلاح الديني بدأت أوروبا تعيد اكتشاف هذا المفكر الاجتماعي السياسي العظيم، وتترجم كتبه ترجمة عكسية. وتحاول أن توائم بينها وبين الدين. (على يد القديس أوغسطين وتوماس الإقويني).
ثم، كما قديما، انقسمت الحركة الفلسفية الاجتماعية في أوروبا حول هذين الرجلين مرة أخرى. تماما كما انقسمت حولهما الأفكار السياسية. بوجه عام، يقولون إن كل إنسان في الدنيا إما أفلاطوني وإما أرسطي. بدرجات مختلفة.
أرسطو قام .. حقا قام
امتدادا لأرسطو كانت الفلسفة التجريبية (الإمبريقية) التي ترى أن المعرفة تبدأ من الحواس. وأن الحكم الوحيد على أي خبرة هو التجربة. ما ينفع بالتجربة هو الأفضل. وما يفشل بالتجربة به عطب، ربما ظهر لنا أو خفي عنا. على تلك الأسس قامت النهضة البريطانية، ثم الأمريكية.
وامتدادا لأفلاطون كانت الفلسفة الفكرانية (الراشونالية)، وامتدت للأفكار السياسية الشمولية الخيالية، الماركسية وغيرها من الأفكار الساعية إلى هندسة نموذج بالتفكير المجرد ثم فرضه.
عاد الفكر التجريبي العملي الواقعي لينقذ أوروبا بداية من عصر النهضة. لكن أين نمط التفكير هذا في المنطقة العربية؟ لماذا ينخفض صوته في مواجهة التفكير الخيالي؟!
واضح طبعا إلى أي النوعين ينتمي كاتب هذه السطور. مهم هذا في البداية لكي لا أدعي أنني بصدد تناول مواضيع نظرية، لا، أنا بصدد التعليق على بعض النماذج الواقعية في تكوين الرأي السياسي العربي. في لبنان والإمارات وغزة ومصر.
لا بد أن نجرد الاختيارات سيئة المنطق من استعلائها الأخلاقي. وأن نضع هذا الاستعلاء الأخلاقي، وغيره من المشاعر، في قفص الاتهام كمسؤول عن الترويج لأسوأ خياراتنا السياسية.
الاختيارات السيئة تقولب أيضا بأهداف سامية، لكنها خيالية. وأفلاطونية.
وصف خيالية وأفلاطونية الذي نطلقه عليها يجمل سوءتها. فهي أفكار قاصرة تنم عن خلل في منطق العقل، يجب أن تذم عليه بما تستحقه. ويجب أن لا ندللها في الذم أيضا. فقد استمرأ أصحابها هذه اللعبة – استعلاء أخلاقي من طرفهم عند طرح الرأي، وتدليل من طرف معارضيهم في ذم هذا الرأي..
تلك معادلة يجب أن تنتهي. (في مصر صرنا نسميها شم كلة، أي أفكار ناتجة عن العالم الوهمي السعيد الذي تقدمه المخدرات حتى الرخيص منها).
وأخيرا تلك الاختيارات السيئة تروج للناس بمنتجات فنية، من صوت فيروز الشجي، إلى شعر فلان الثوري. وبينهما تتوه أفضل فضائل الإنسان: القدرة على التفكير المنطقي.
محطتنا الجغرافية السياسية الأولى ستكون بلد فيروز، لبنان، نموذج الفشل المحتفى به.
أهلا وسهلا برأيك