سرد وقائع توتر قطري: القصة المتخفية في ثنايا تحقيق نيويورك تايمز عن محمد فهمي وسفير الإمارات
القضية التي رفعها الصحفي المصري الكندي، محمد فهمي، على قناة الجزيرة قضية تتعلق بشق إداري بحت. الصحفي يدعي قضائيا على القناة بأنها أخلت بشروط العقد، فلم توفر له الحماية الكافية من ناحية التصاريح التي تقنن وضعه في مصر كمراسل صحفي. قد يكون الصحفي محقا في ادعائه، وقد لا يكون. في كلا الحالتين هذا يحدث في عالم التوظيف.
فلماذا تخشى قطر من احتمال نجاح القضية، وهو احتمال ضعيف جدا ما دامت متأكدة من التزامها بالبنود التعاقدية، ومتأكدة – طبعا – أن القضاء الكندي لن يكون مسيسا؟
المشكلة أن قطر جنت بالفعل أرباحا سياسية من حبس الصحفي محمد فهمي وزميليه ، حيث استخدمت القضية في إبراز وضع الحريات في مصر. وهو عنوان تجاوزه العالم ولم يعد يكترث به. وليس متوقعا أن تجني أرباحا سياسية أخرى حال حكم القضاء الكندي لصالح في هذه القضية الإدارية.
أما في حالة الاحتمال (الضعيف حسب تأكيداتها) بأن يحكم القضاء الكندي للصحفي محمد فهمي بتعويض عن الأضرار التي لحقت به جراء التقصير فإن خسارتها لن تكون في قيمة التعويض، التي أشك أن الجزيرة كانت سترفض دفعها، أو التوصل إلى ”تسوية“، خارج الأطر القضائية. فهذا أيضا متعارف عليه في عالم المؤسسات الصحفية.
خسارتها ستكون أكبر من ذلك. ستكون معنوية. ستظهر الجزيرة في صورة القناة التي تعبث بسلامة مراسليها في سبيل أغراض سياسية. والأنكى من ذلك، أن حكما كهذا سيضفي مصداقية على باقي ادعاءات فهمي على القناة. وبالأخص علاقتها بالإخوان المسلمين. وفي توقيت سيئ للغاية.
الجانب المعنوي في هذه القضية هو الأساس. ليس فقط من ناحية الجزيرة، إنما من ناحية محمد فهمي، المصري الكندي، الذي اضطر إلى التنازل عن جنسيته المصرية لكي يشمله العفو الذي شمل الأسترالي بيتر جريستي. وهذا جانب معنوي مهم لأي مغترب يحمل جنسية أخرى غير جنسية بلده. التأكيد الدائم على ولائه للبلد، ونفي أي شبهة لـ ”تآمر“ مع خصم عليها.
هذا البعد المعنوي لم يفهمه صحفي النيويورك تايمز الذي اختار هو أيضا عنوانا غريبا، ومنحازا معنويا، لآخر تطورات القصة.
قصة نيويورك تايمز
تلقت صحيفة نيويورك تايمز – كما غيرها من وسائل إعلامية – تقريرا يقع حسب وصف الصحيفة في مئات الصفحات. غرضه إظهار أن محمد فهمي لا تحركه في دعواه القضائية ضد الجزيرة إلا دوافع سياسية ”مغرضة“، تقف خلفها دولة الإمارات. . ويحاول التقرير الذي أرسله مجهولون، رجحت الجريدة نفسها أنهم يعملون لصالح قطر – أن يثبت ذلك بالإشارة إلى ضلوع ”سفير الإمارات“ في الولايات المتحدة في تمويل القضية.
إلى هنا وهذا متوقع في عالم السياسة. وعالم المخابرات. من الممكن – فعلا – أن تكون الإمارات مشجعة لمحمد فهمي في المضي قدما في القضية.
لكن التقرير أيضا يحاول أيضا تشويه سمعة محمد فهمي بإشاعة معلومات – تأكدت الجريدة نفسها أنها كاذبة – عن علاقة محمد فهمي بمخابرات دولة أجنبية هي إيطاليا.
ويحوي نوعا ثالثا من المعلومات يستخدم عادة لإرهاب الهدف، في أسلوب سوفييتي عراقي سوري ليبي … إلخ… معروف. وهو صور لبيت الهدف، وصور لمكان عمله، وقائمة بمحلات تجارية تتردد عليها زوجته للتسوق. (كل هذه المعلومات من القصة المكتوبة في الجريدة كما سأفصل لاحقا).
رغم كل هذا، تركت الجريدة كل تلك الجوانب الإضافية الرامية إلى الإمعان في تشويه صورة محمد فهمي، وإلى تخويفه، واختار للتطور الأخير عنوانا يمس هو الآخر معنويات محمد فهمي ويساهم في غرض تشويهه. ويصرف الأنظار عن باقي ما في قصة التقرير من تفاصيل.
العنوان يقول: صحفي يختار جانب سجانه في نزاع غريب في الخليج الفارسي (نقطة جانبية: هذا هو اللفظ المستخدم أمريكيا لوصف ما نعرفه بالخليج العربي).
لماذا أصف هذا العنوان بالغريب، المنحاز معنويا؟
١- ليس هذا هو التطور الجديد في القصة. التطور الجديد في القصة هو التقرير ”المجهول“ والمعلومات الواردة فيه. وهي بعيدة عن ذكر مصر، التي وصفها التقرير بـ “سجانه”. محمد فهمي اختار الجانب الذي اختاره منذ فترة تربو على السنتين.
٢ – اختارت الجريدة لفظة ”سجانه“. وهنا نقطتان. أولهما أنها تتجاهل العلاقة الأهم معنويا بالنسبة لمحمد فهمي، التي أشرت إليها سابقا، وهي كونه مصريا. ولو تركنا الأمور لأهواء الإعلام، فالحقيقة الأقرب هي أنه اختار جانب بلده ضد دولة خصم. ليس هذا فحسب. لفظة ”سجانه“ قطع من الجريدة بأن التهمة التي وجهت إلى محمد فهمي في مصر لا أساس لها من الصحة. سجانه أو جلاده، لفظة سلبية في الصراعات القانونية. مع ملاحظة أنني لا أعترض على أن يعتقد من يشاء ما يشاء بخصوص قضية محمد فهمي. لكنني أتحدث عن ”التعاطي الصحفي“ في هذا الموضوع المنشور في نيويورك تايمز. هذا موضوع لم يكن هدفه بحث قضية محمد فهمي، ثم خلص من هذا البحث إلى الجزم بأن القضية فشنك، وبالتالي اختار هذا العنوان. لا.
هذه قصة مكتوبة عن تقرير مجهول أرسل إلى الجريدة. وفيه ادعاءات محددة. بعضها مرجح الصدق، وبعضها ثابت الكذب. وبعضها غرضه التخويف. هذه هي القصة الجديدة، التي ننتظر ونتوقع أن يكون العنوان دالا عليها.
سأعرض فحوى التقرير في نقاط. من خلال التفاصيل التي نشرتها نيويورك تايمز نفسها. لن أتدخل بتفاصيل من عندي. لكي نرى بالظبط القصة التي خلف التفاصيل
١- من “العميل” الذي كلّف مخبرين خاصين بتعقب محمد فهمي والتجسس على حساباته؟
التقريران اللذان تلقتهما الجريدة مشطوب فيهما اسم العميل الذي كلّف “المخبرين السريين” بإعدادهما. لكنهما يحويان صورة لباسبور محمد فهمي الكندي، ومجموعة من المعلومات عنه، من السهل أن تتوفر لمشغله السابق “قناة الجزيرة”.
يحوي التقريران أيضا مراسلات تنتمي إلى سفير الإمارات في الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، والمعروف أن تلك المراسلات سربت إلى الإعلام مؤخرا، ويعتقد على نطاق واسع أن مسربيها “هاكرز” يعملون لحساب قطر.
هذه ما تقوله الجريدة في ثنايا القصة، وهذا ترجمة لما كتبته، لمن يريد أن يتأكد.
٢- ما نوعية المعلومات التي يقدمها التقريران:
أولا:
تورد الجريدة في فقرات بالقرب من ذيل القصة المنشورة أن المعلومات تشمل فواتير تليفونات، قوائم بالمكالمات، تقارير عن أرصدته البنكية، ومراسلات إلكترونية. هذا مفهوم.
لكنها تشمل أيضا أسماء المحلات التجارية التي تتردد عليها زوجة محمد فهمي. وصورا لمحل إقامته ومحل عمله. هذا نفس النوع الذي تستخدمه النظم السياسية لإرسال رسالة تهديد إلى أشخاص، فحواها أنهم مرصودون في بيتهم، ومحل عملهم، وأن تحركات المقربين إليهم مرصودة.
الجريدة لم تعلق هذا.
ثانيا:
أحد الملفين عبارة عن كتابات بخط اليد، يدعي التقرير أنها تنتمي إلى المخابرات الإسرائيلية، و ترصد تحركات محمد فهمي وتردده على مكاتب دبلوماسية إيطالية في روما وباريس والمغرب والقاهرة. وتدعي أنه يعمل لصالح المخابرات الإيطالية. الجريدة اطلعت بنفسها على وثائق قدمها محمد فهمي تثبت أنه لم يكن هناك بالمرة.
ثالثا:
المراسلات بينه وبين السفير الإماراتي يوسف العتيبة. أولها حين عقد مؤتمرا صحفيا في القاهرة فاقترح عليه أن يتحدث إلى إدارة سكاي نيوز لكي تهتم بتغطيته. والثاني يخبره فيها أنه بصدد الاستمرار في الضغط الإعلامي على قناة الجزيرة وأن لديه وثائق من المعارضة ستكون محرجة حال الكشف عنها. والثالث مراسلات حول القضية القانونية وأنه سيحتاج للاستمرار فيها إلى “قرض” يرد حال نجاح القضية بفوائده أو بهامش ربح.
مراسلات من يوسف العتيبة إلى رجل الأعمال المصري توفيق دياب، وهو قريبه، (أم يوسف العتيبة وزوجته مصريتان)، يطلب فيهما تحويل مبلغ ربع مليون دولار إلى حساب محمد فهمي.
هذه بعض المقاطع من الجريدة تحكي القصة
ومجمل القصة هنا أن محمد فهمي يقر بتلقي دعم مالي عن طريق العتيبة، لكنه يقول إنه قرض، ويقول إنه بناء على علاقة صداقة قديمة. والسجلات تظهر أن هذه الأموال طلبها العتيبة من قريب له مصري. والأموال ذهبت إلى حساب بمعرفة محمد فهمي في مونتريال. يقول فهمي إنه ليس حسابا شخصيا بل حساب لطرف ثالث رفض أن يسميه. أما حسابه الشخصي في فانكوفر فلم تصل إليه أموال.
هذا تلخيص لكل المعلومات الواردة في نيويورك تايمز. وهي، كما قلت في المقدمة، تشير إلى أن التقرير فيه معلومات راجحة الصدقية، وأخرى كاذبة تماما، وثالثة غرضها التخويف.
وبالتالي، كان يمكن للجريدة، طبقا للتطور الجديد في الموضوع، أن تختار عنوانا مثل
١- سفير الإمارات يمول قضية محمد فهمي. لكنها لم تملك دليلا قاطعا إن كان فعل هذا بصفته سفيرا للإمارات أم بصفته الشخصية. فتجنبت ذلك العنوان.
أو
٢- محمد فهمي يتعرض لحملة تشويه. على أساس أنه – وبفرض صحة التمويل الإماراتي – فإن الادعاءات في التقرير تذهب إلى أبعد من هذا كثيرا. ونستطيع الآن أن نستخدم، في غير قضية التمويل، لفظة مزاعم. لأن الجريدة تأكدت من كذب الادعاء، في ما يخص موضوع التعامل مع جهات أجنبية.
٣- تجمع بين الاثنين.
لكن الجريدة اختارت أن تميل على الطرف الأضعف. وأن تحتفظ بالتفاصيل التي تدين السلوك القطري في ثنايا الموضوع.
هذه التفاصيل هي التي تهمني في مقالي. إذ إنها بالنسبة لي دليل على سلوك قطري متوتر. قد تتجنب الصحافة العالمية إبرازه في العنوان الآن، لكن بمجرد أن تضعف أسهم قطر ستعود الصحافة إليه بالتحليل. وإن كانت الآن تحتفظ به في ثنايا التفاصيل.
محمد فهمي نفسه قال، حسب الصحيفة، إنه سيضم هذا التقرير إلى أوراق القضية، كدليل على حملة التشويه الذي يتعرض لها.
السلوك القطري المتوتر لم يكن قاصرا على هذه القضية الجانبية مع محمد فهمي. والتي ستتضاءل أهميتها كثيرا في القادم من الأيام، بعد أن صارت المواجهة مع قطر لا تقتصر على قضية موظف هنا أو هناك، بل مواجهات بين دول ومحاور. السلوك القطري المتوتر بدا في خبرين سريعين آخرين.
أولهما أن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة اضطر إلى إصدار بيان ”تكذيب“ لما ورد في وسائل إعلام قطرية عن فحوى اللقاء بين المفوض السامي وبين المندوب الدائم لدولة قطر.
هذا أصل البيان بالإنجليزية وترجمة له من موقع العربية نت.
أما المظهر الأوضح لهذا التوتر القطري فكان في تصريح غريب على الدبلوماسية.
أقر وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بدعم بلاده للإرهاب، وكان تبريره إن جميع دول المنطقة متورطة في نفس السلوك. ما يلفت نظري في هذا التصريح أنه ربما يكون أكثر من خطأ دبلوماسي. بل ربما يكون الخط السياسي لقطر بعد أن ووجهت بأدلة ضلوعها في دعم الإرهاب، ولم يعد ثمة فائدة من إنكار التهمة.
يمكنك أن تشاهد التصريح هنا.
أهلا وسهلا برأيك