مقالات هتعجبك

تشريح عقل الإخوان: ٣- تحويل السيرك إلى مزرعة

مخطئ أو مغرض من يقلل من ذكاء الإخوان، وفعالية ستراتيجيتهم. من عملية تغليف ناجحة في التمانينيات، إلى خطة تحويل السيرك إلى مزرعتهم الخاصة في التسعينيات. التفاصيل هنا

١

الدكتور علي الصلابي، المدرج على قائمة الإرهابيين المقدمة إلى قطر، كاتب إسلامي ليبي من جماعة الإخوان المسلمين، وهو أحد الأذرع اليمنى الكثيرة للشيخ يوسف القرضاوي، المرشد الأعلى للجماعة العالمية، ويسمى ”قرضاوي ليبيا“.

دكتور الصلابي كان له دور بارز في ما يعرف بالمراجعات الفكرية في ليبيا. وهي مراجعات قامت بها ”الجماعة الإسلامية المقاتلة“ هناك، بدءا من عام ٢٠٠٧ حتى عام ٢٠٠٩. انتهت المراجعات بإصدار كتاب أسمته ”دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس“. وبموجبها تم الإفراج عن قياديي الجماعة، ومنهم عبد الحكيم بلحاج الذي ألقي القبض عليه سنة ٢٠٠٤ بعد أن كان مطلوبا من الإنتربول بسبب محاولة اغتيال القذافي قبل ذلك بثماني سنوات.

أفرج أيضا عن مئات من أعضاء الجماعة على دفعات، كان آخرها يوم ١٦ فبراير ٢٠١١. قبل ذلك التاريخ بيوم واحد فقط أعلنت الحركة الإسلامية المقاتلة تأسيس إطار سياسي جديد اسمه ”الحركة الإسلامية الليبية للتغيير“.

أما بعد ذلك التاريخ بيوم واحد فقط، فقد اندلعت أحداث النسخة الليبية من ”الربيع العربي“. عبد الحكيم بلحاج المفرج عنه بوساطة إخوانية صار رئيسا لما يسمى بالمجلس الانتقالي العسكري في طرابلس.

يتنقل عبد الحكيم بلحاج في إقامته حاليا بين تركيا وقطر. وهو مدرج على قائمة الإرهابيين المطلوب إبعادهم من الدولة الخليجية.

في قطر أيضا يعيش المصري عاصم عبد الماجد. زعيم ”الجماعة الإسلامية“ في مصر، وأحد ثلاثة كتبوا ميثاقها المؤسس. لاحظوا تشابه الأسماء بين الجماعتين.

التشابه في الحقيقة يتعدى الأسماء ومكان الإقامة (الجهة الراعية)، والإدراج على قائمة الإرهاب. عبد الماجد هو الآخر شارك في ما يسمى بالمراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية في مصر، قبل الليبية بعشر سنوات. وقت المراجعات المصرية لم تكن قيادات الجماعة الإسلامية الليبية معتقلة، ولم يكن للمراجعات من ضرورة حركية.

كما توسط الإخواني الصلابي في مراجعات ليبيا كان الوسيط الأهم في مراجعات مصر الإخواني محمد الغزالي. صحيح أن الشيخ محمد متولي الشعرواي شارك في الوساطة ولكن مشاركة معنوية. فالشعراوي لم يكتب في الفقه الحركي الإسلامي. على عكس الغزالي، مؤلف فقه السيرة وقذائف الحق.

وبالنتيجة فإن عاصم عبد الماجد أعلن أنه غير منهجه العنيف السابق، فهو قائد الهجوم على أقسام الشرطة في صبيحة عيد الأضحى من عام ١٩٨١، وهو الهجوم الذي أودى بحياة أكثر من مئة جندي أمن مركزي، وضابط شرطة. وأسفر عن إصابة عبد الماجد نفسه في ركبته، ففقدت حتى اليوم قدرتها على الاثنناء.

والانثناء كان أحد الاتهامات التي يوجهها عبد الماجد لجماعة الإخوان المسلمين. فقد كتب في بند طريقنا من ميثاق العمل الإسلامي: ”الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من خلال جماعة منضبطة حركتها بالشرع الحنيف. تأبى المداهنة أو الركون، وتستوعب ما سبقها من تجارب.“ الجملة الأخيرة تعريض بجماعة الإخوان التي صار عبد الماجد، على وجه التحديد، أبرز حلفائها بعد النسخة المصرية من ”الربيع العربي“، وكان اسما مقترحا لتولي هيئة الإعلام المزمعة تحت حكم الإخوان، وكان خطيبا دائما على منصة رابعة. وهو الآن يعيش في كنف الجماعة في قطر.

هل فتح لك هذا الجزء الأول من المقال بابا لفهم المراجعات الفكرية من وجهة نظر حركية؟ هل سألت نفسك ما الذي يجمع – حركيا – بين عبد الحكيم بلحاج وبين عاصم عبد الماجد، وما دلالته؟

٢

المراجعات الفكرية للقياديين المشمولين حاليا برعاية الإخوان المسلمين كانت اعترافا بالقيادة لمنهج الجماعة الأم، لدولة الإخوان، بعد فترة من ”الشقاوة“ والمراهقة النضالية. وليس اعترافا بالقيادة لدولهم الجغرافية، حتى وإن كان هذا ما بدا، وما روج له.

دولة الإسلاميين دولة موازية للعالم الذي تعيشه أنت. تقرأ تاريخا غير الذي تقرأه أنت. وترى العلاقات بين الناس على أسس غير التي تعرفها. على الأقل هكذا كانت نقطة البداية قبل عقود، لكنها نجحت في تعميم نموذجها المعرفي إلى قطاعات كبيرة، وغالبا إليك أنت شخصيا، ولكن دون أن تدري. لقد استشرى نموذجها ليس على المجتمع فقط. ولكن أيضا على غيرها من الجماعات الإسلامية.

فالجماعات الإسلامية أيضا مجتمع تتنافس فيه أحزاب، وطبقات اجتماعية. كما تتفاوت موارد تلك الأحزاب وقدراتها المادية والإعلامية.

الجماعات الجهادية الراديكالية، تشبه الجماعات الراديكالية في الوسط الشيوعي واليساري، جماعات متجددة مع كل جيل شاب جديد. يقود هؤلاء الشباب عادة شيخٌ متوسط الكفاءة العقلية إلى درجة أنه لم يغير رأيه أبدا، يسمونه ”ثابتا على الحق“، ويسميه غيرهم جامدا متحجرا.

بالنسبة للجماعات الشابة في الوسط الإسلامي فإن جماعة الإخوان هي ”الجماعة الواصلة، سكان الأبراج العاجية، الذين ألهتهم الدنيا، اللي باعوا… ” إلى آخر هذه الاتهامات المشهورة المتكررة.

من خلال موقعها السياسي تستخدم جماعة الإخوان المسلمين – كأي جماعة سياسية – هذا كله. فهي تبيع للسلطات السياسية، المحلية والعالمية، قدرتها على التأثير في المجموعات الراديكالية. وليس هذا بالمهمة السهلة، بل تحتاج إلى سياسة ترويض ممتدة، وإلى قرارات سياسية براجماتية حاسمة. تصل أحيانا إلى المواجهة المباشرة مع هذه الجماعات. وقد تمر بالوشي بهم لدى السلطات، انطلاقا من أنهم خطرون على مستقبل الحركة الإسلامية. وبين هذا وذاك تمد لهم جزرة التوسط لرفع المعاناة، وتسخر محامييها للدفاع عنهم، وتعرض عليهم وظائف في شركاتها الممتدة.

وأخيرا، في ذلك الظلام الدامس بالنسبة للجماعات الجهادية، في تسعينيات مصر وقد نجح الأمن المصري في القضاء عليها وأودع قادتها السجون، أو في ألفينات ليبيا بعد القبض على سامي مسعود وعبد الحكيم بلحاج سنة ٢٠٠٤، يتقدم الإخوان بعرض الوساطة النهائي. تذعن الجماعة، وتخرج تحت لواء الإخوان. بعد أن ”استوت“ في السجن.

الإخوان لا تمارس سياسة العصا والجزرة نحو رفقائها الإسلاميين محليا فقط، بل وعالميا أيضا، بنفس المراحل. لكن الإقليم والعالم مبحثان آخران، لمقالين آخرين. ما يهم الإشارة إليه هاهنا أن كل شيء اختلف بدءا من عام ١٩٩٦، وقوة الجماعة تضاعفت مرات ومرات. كل شيء اختلف مع وضوح توجه القيادة الجديدة في قطر، التي حازت السلطة قبلها بفترة وجيزة.

الخلاصة أنه مع الجماعات الإسلامية الأخرى، تمارس الإخوان نفس الستراتيجية: ”تجريد الآخرين من وسائق القوة، واحتكارها لأنفسهم“. لا تظنوا أبدا أنه مسموح لجماعة إسلامية بمنافسة الإخوان، دون أن تنالها أنيابهم. أي جماعة بعيدة عن أنياب الإخوان، ولو بالصمت عنها، هي جماعة تقدم لهم خدمات معينة، ولا تزال في إطار المنفعة.

فإن كان هذا ما تفعله الجماعة مع رفقائها الإسلاميين، فكيف نتوقع ما تفعله مع القوى السياسية الأخرى في المجتمع! هذا أيضا سيمر بمرحلتين، ما قبل ٩٥ وما بعدها.

٣

الإخوان في الثمانينيات فعلوا ما يسمونه في التسويق re-branding

طرحوا منتجهم بعنوان جديد، أنهم قوة سياسية تريد أن ”تمارس السياسة“ من خلال تكوين حزب. لكن هذا الطرح واجهته مشكلة أساسية. أن الحزب الإخواني قائم على مبدأ أفضلية المواطنين من ديانة معينة على غيرهم. وهو ضد القانون، في مصر على الأقل.

لكن الإخوان التفوا عليها عن طريق الانضواء تحت أحزاب قائمة. يملك الإخوان قوة انتخابية كبيرة في صفوف المتعلمين الأميين، وهو قطاع كاسح من من المتعلمين المصريين الذين أجادوا القراءة والكتابة مع توسع التعليم المجاني، ولكنهم استخدموا معرفتهم بنقش الأحرف في ترديد نفس المعارف الأمية المتداولة بين الأميين في جيل آبائهم وأجدادهم. لم تكن القراءة والكتابة سبيلهم إلى البحث في المعارف العالمية التي يتدولها العالم ويراكمها منذ ستة قرون على الاقل.

نصف الشعب المصري أمي، هذا النصف لا يزال قوة انتخابية كبيرة للعائلات السياسية القديمة، التي تشكلت منها سلسلة أحزاب وهيئات التمثيل المدني، بدءا من حزب الوفد مرورا بالاتحاد الاشتراكي وصولا إلى الحزب الوطني.

أما القاعدة الجديدة من المتعلمين الأميين، النصف الآخر، فنصيب الإخوان فيها كبير. وسيظهر أثره بعد عقدين، مع مواقع السوشال ميديا، التي تشترط ”فك الخط“ لكي تضعط لايك أو ريتويت. وهو شرط متوفر في جموع الإخوان.

المهم أن الإخوان وقتها ساوموا الأحزاب المختلفة على هذا القطاع الانتخابي، بدأوا بمساومة اليمين الاقتصادي (هنمشيها كده) ممثلا في حزب الوفد، فخاضوا تحت لوائه انتخابات ١٩٨٤. لكن هذا التحالف انفصم سريعا. إذ يبدو أن الإخوان حاولوا أن يبتلعوا الحزب وفشلوا. الإخوان لا يشاركون أحدا السلطة.

بدأت تجربة الإخوان الأولى في تدمير الحزب السياسي الذي لا يدين لهم. صعدوا نجم شاب صغير اسمه أيمن نور، حاز شهرته في الثمانينيّات من خلال تحقيق وفره له محامو الإخوان عن التعذيب داخل السجون المصرية. رد عليه وزير الداخلية لاحقا بتصويره وهو يقول ما معناه إن بعضا من الصور التي استخدمها في التحقيق كانت “اعادة تمثيل” لما يجري، وليست صورا حقيقية. تذكر أن هذا التحقيق كان في الثمانينيات، قبل أن يعرف العالم الهاتف المحمول. لا يهمنا هذا الحدث بقدر ما يهمنا أن تلك كانت بذرة أولى لسياسة إخوانية قادمة.

انطفأ نجم أيمن نور لفترة، ثم صعد مرة أخرى حين ترشح على رئاسة الجمهورية في ٢٠٠٥، بعد انفصاله عن الوفد، وكان مؤيدا بشكل غير رسمي من جماعة الإخوان المسلمين. ثم نال حكما قضائيا بالسجن. ولم تظهر صلته بالإخوان إلا بعد ٢٠١١.

الجماعة نفسها واصلت العمل مستهدفة حزبا آخر هو حزب العمل الاشتراكي، وخاضت معه انتخابات ١٩٨٧. في إعادة لتحالف قديم بين الاخوان والاشتراكيين قاد إلى حركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢. والغريب أن الشخصيات نفسها لم تتغير. فرئيس حزب العمل هو إبراهيم شكري، عضو البرلمان الوحيد عن الاشتراكيين في آخر انتخابات قبل ١٩٥٢.

ما لم يقبله حزب الوفد قبله حزب العمل. وغير اسمه من حزب العمل الاشتراكي إلى حزب العمل الإسلامي. ورفعت الجريدة شعار “الإسلام هو الحل” شعارا انتخابيا للحزب الجديد.

جريدة الشعب كانت أكثر صحف مصر دفاعا عن صدام حسين في حربه على الكويت عام ١٩٩٠. بخليط من شعارات اليسار والإسلام السياسي، تلتقي فقط في الهدف المشترك، ممالك الخليج. هذه نقطة أخرى سنحتفظ بها إلى حين حديثنا عن الإقليم. والستراتيجية الإخوانية فيه.

لكن ما يهمنا هنا أنها كانت تدشينا للتحالف السياسي بين الإسلاميين واليسار الشعبوي المصري، بلغة سياسية مناسبة تماما لقطاع “المتعلمين الأميين”. كان نجمها كاتبا اسمه محمد عباس برز للواجهة مع الحرب المشار إليها.

وهو الكاتب الذي سينقلنا معه إلى حرب الإخوان على قطاع آخر من قطاعات المجتمع

٤

انتقل محمد عباس بصحيفة الشعب إلى منطقة يعشقها الإسلاميون، محولا نقد الكتب إلى حرب بين الإيمان والكفر، فكانت صحيفة الشعب وكاتبها أول من فجر أزمة كتاب “وليمة لأعشاب البحر” للكاتب السوري حيدر حيدر، بعنوان يرسم بالضبط النهج الإخواني في التعامل مع الإنتاج الفكري والأدبي. الدور الإخواني هنا يضطلع بمهمة التحريض على العنف، ثم يترك لآخرين ممارسته. العنوان الذي استخدمته الجريدة الإخوانية في الاعتراض على الكتاب كان “من يبايعني على الموت.” !!!!

لم يقتل الكاتب السوري حيدر حيدر. لكن القتل طال مفكرا مصريا آخر تولى الإخوان المسلمون التحريض عليه، هو المفكر فرج فودة. الذي قتل عام ١٩٩٤ بعد مناظرة شهيرة بينه وبين قيادات في جماعة الإخوان المسلمين منهم الشيخ محمد الغزالي (عراب مبادرة وقف العنف!!) ومأمون الهضيبي.

في كل الأحوال استمر النهج السياسي للإخوان المسلمين داخل المجتمع المصري على نفس المنوال، وبنفس القاعدة الاستراتيجية:

”تجريد الآخرين من وسائل القوة، واحتكارها لأنفسهم.“

مفهوم، وإن كان غير مقبول، أن تقدم سلطة احتكارية في دولة على تدمير الأحزاب. لكن لماذا تقدم جماعة بعيدة عن السلطة على ذلك؟ أليس الأولى أن تكون مشغولة بصراعها مع السلطة.

الإخوان المسلمون ليست مجرد حزب سياسي، ليست الوفد ولا التجمع ولا غير ذلك. الإخوان المسلمون في الحقيقة سلطة دولة غير معلنة. وهي تجهز البيئة التي تعمل فيها لحكمها. لا تنافس أحدا، بل تحرق الجميع بهدوء، وتجرد الجميع من القوة بهدوء، في نفس الوقت الذي تنشر فيه النقمة في أوساط المجتمع. حتى إذا حانت الفرصة كانت هي القوة الوحيدة الجاهزة.

ليس صحيحا أن الإخوان المسلمين مع السلطة، وليس صحيحا أنها قوة سياسية معارضة. الإخوان المسلمون مش مع حد. الإخوان المسلمون مع أنفسهم فقط.

بالنسبة للإخوان المسلمين فإن وجود منافسين ذوي قوة، فكرية أو تنظيمية أو مالية، عائق في وجه مشروعهم، تماما كوجود سلطة.

تحريضها على المفكرين، بالذات، وسعيها إلى تدمير الأحزاب من الداخل، بمن يتسلل من أفرادها إلى تلك الأحزاب، خط استراتيجي ثابت، ملتزم بالقاعدة الاستراتيجية الثابتة: “تجريد الآخرين من وسائل القوة، واحتكارها لأنفسهم“. الحزب أو الجماعة التي لا تستطيع ابتلاعها انسفها واسترح منها. الصحفي والمفكر الذي لا تستطيع استخدامه لمصلحتك حطمه معنويا وشخصيا.

ولا أستطيع أن أقول إن هذه لم تكن سياسة ناجحة. وقد رأينا هذا بأعيننا في أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١، حيث بانت البلد بلا أي قوة تنظيمية سوى الإخوان المسلمين. بلا أي قوة فكرية تنظيرية إلا من يعمل لأهداف الإخوان المسلمين. كل كيان أو شخص كان يمكن أن يمثل لهم تحديا، أو جهر بذلك التحدي، تم اغتياله معنويا وشخصيا بجهد منظم متواصل وناجح.

كل مؤسسة إعلامية وقفت في وجه الأخطبوط الإعلامي القطري شنت عليها حملة شعواء، واتهامات توحي بأن التمويل القطري مستحب، وكل تمويل آخر كبيرة لا تغتفر.

جهد يأتيكم برعاية كثير من الذين يصفون أنفسهم بأنهم “مش إخوان”، والذين يصفون أنفسهم بأنهم “وطنيون نزهاء”،  وكلهم إخوان أو ترتبط مصالحهم بمصالح الإخوان، وظيفيا.

كيف؟

٥

لقد كانت خطوة الإخوان التالية، بعد التوغل في الأحزاب، التوغل في المنظمات غير الحكومية. عن طريق شبكة ممتدة من إخوان أوروبا وإسلامييها، صارت تضمن التمويل، والتنجيم. وتحمل لواء التشويه لأي منظمة تنافي في غرضها أغراض الإخوان.

نتج عن هذا جيل من الحقوقيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، شهدنا أحد مقرريهم على التليفزيون (اسمه جمال عبد الرحيم بدون ذكر أسماء) وهو يدعو إلى حرق بيوت البهائيين، في مشهد هزلي مبك لا يمكن أن تراه إلا في مصر، التي صار مجتمعها “المدني” تحت سيطرة الإخوان. سيطرة أعمت العيون فلم تستطع أن ترى حتى تحريق البيوت جريمة. على ما فيها من نيران لا تخطئها العين في الظلام وما يصدر منها من صرخات ألم لا تخطئها أذن. يكفي هذا المشهد لكي تعلم مدى اختراق الإخوان للجماعات الحقوقية.

ما يسري على الجماعات الحقوقية، والمفترض أنها كمنظمات نشأت لكي تجعل المجتمعات تتجاوز قوانين القرون الوسطى، يسري على غيرها من المنظمات غير الحكومية. حيث سيطر الإخوان في أوروبا على منظمات لا تحمل أي شعارات إسلامية، وتوغل أفرادها، من أبناء المهاجرين القدامى، في منظمات راسخة. ونجحوا بذلك في رهن مصالح منظمات الداخل المصري بمصالحهم. وضمنوا ولاء من يعمل هنا. تماما كما فعلوا مع مؤسسات إعلامية كبرى، من غير المنتمية مباشرة إلى الإخوان المسلمين. كدويتشه فيله وبي بي سي.

والأهم من ذلك أن الإخوان، بإعلامهم، منحوا هؤلاء المتزلفين لهم من الحقوقيين والنشطاء والمثقفين سلطة معنوية. يستطيع مثقفون أن يتزلفوا للإخوان دون أن يسميهم الناس متزلفين. وبمقدورهم التفريط في حقوق غير المسلمين من المواطنين دون أن يسميهم الناس “مفرطين في القضايا الحقوقية”. وحدها حقوق الإرهابيين وأعوانهم مصونة. وحده حق التعبير السياسي الاعتراضي المتماشي مع أغراض الإخوان مصون، أما كل الحقوق الأخرى بدءا من المواطنة وانتهاء بالعقيدة، فلم يعد لها قيمة.

كل هذا وضع لمسه المواطن العادي، فصار يتساءل “هي حقوق الإنسان هي حقوق الإرهابيين بس؟“ يردد الملاحظة الواضحة التي رآها. ولكن دون أن يفهم الشبكة المختفية تحت السطح التي أوجدتها.

لقد وقع الوسط الثقافي والحقوقي المصري أيضا في نطاق قاعدة: “تجريد الآخرين من وسائل القوة، واحتكارها للإخوان”. كما وقع الوسط الأدبي، ومجال الأفلام الوثائقية، والإنتاج السينمائي الخاضع للمنح.

٦

إن غرضي الأهم من هذه السلسلة المتواصلة من المقالات عن عقل الإخوان الستراتيجي هو إزالة لازمة للضباب والغشاوة عن العيون. أن نفهم خدعة ادعاء البطولة من جانب قوى سياسية هي في الواقع تتزلف تزلفا انتهازيا لدولة مترامية المصالح اسمها الإخوان المسلمين، تسيطر في المجال الإعلامي والفكري ودور النشر التابعة لها على الوسط الثقافي أكثر كثيرا مما تسيطر أي دولة عربية منفردة، بل لا أبالغ إن قلت أكثر من كل الدول العربية مجتمعة.

غرضي أن أقول إن من يقف في وجه ترسانة الإخوان، ويستخدم لذلك ما تيسر من وسائل واقعية للقوة، لا يتعرض لحملات تشويه اعتباطا، ولا تنسب إليه اتهامات “القبض” من قبل أناس لا يمانعون في العمل في مؤسسات ممولة قطريا اعتباطا. بل تنفيذا لستراتيجية ثابتة واضحة. ترمي إلى تجريد كل منافس من وسائل القوة، مادية كانت أو فكرية أو تنظيمية، واحتكارها للإخوان.

الإخوان واقعيون أكثر من كثير من الهبل الذين يخدمون عليهم، وصرحاء أكثر من كثير من الانتهازيين المدعين الذين يدورون في فلكهم.

تذكر أننا تحدثنا هنا عن خطة الإخوان التي سيطروا بها على الجماعات الإسلامية، الأحزاب، الجمعيات الحقوقية، وأخيرا الوسط الثقافي والفكري، داخل دولة مثل مصر، لأننا سننتقل إلى الإقليم ثم العالم، فتتلاقي الخيوط، وتكتمل الصورة.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

Discover more from البوست العربي

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading