بعد تيران وصنافير … هل ينجح السيسي داخليا كما خارجيا؟
الرئيس عبد الفتاح السيسي كان مديرا للمخابرات الحربية، ولا بد أنه تعامل أثناء فترة تواجده الطويلة في الجهاز مع أناس وثق فيهم وأثبتوا الثقة. هؤلاء بدورهم يعرفون أناسا يمدون معهم سلسال الثقة، وهكذا، تكون Chain of Trust أو تسلسلية ثقة، بالتصرف في المصطلح العسكري الشهير.
وفي الحقيقة فإن كثيرا من أفعال الرئيس السيسي حين أفكر فيها تفكيرا موضوعيا أردها إلى أنه أدرك خطأ ما في تركيبة الحكم في مصر، ويريد أن لا يقع فيه، هذا مفهوم طالما كان قادرا على شرطين:
الشرط الأول الحفاظ على التوازن، وهي مهمة صعبة، ولكن صعوبتها تزداد بسبب الشرط الثاني. هل يملك في تسلسل الثقة الذي يحيط به نفسه من الخبرات ما يكفي. هل أهل الثقة يملكون واقعيا هذه الخبرات أم لا؟
نستطيع جميعا أن نجيب هذا السؤال إن نظرنا بموضوعية إلى إدارة الملفات الداخلية، كالاقتصاد والإعلام. إن نظرنا إلى الحكومة التنفيذية وقدراتها.
أدرك السيسي مشكلة ”العائلية“ في حكم مصر. هذا مفهوم، ونتحدث جميعا عنه. لكنه نصف الإجابة السياسية. لأن النصف الثاني – الأهم – هو كيف يتعاطى مع المشكلة.
هنا أتوقف وأترك لكم مجالا في التفكير.. لكي أفصل أكثر ما أعنيه بالمشكلة العائلية.. النصف الأول من الإجابة.
نظام دولة يوليو
انبنى نظام يوليو في مهده على حكم مجلس قيادة الثورة، وهو عبارة عن ١٣ رفيقا ممن قادوا ١٩٥٢، ولكل منهم مركز قوة صغير أو كبير. اختفى الجميع من المشهد تباعا بحكم صغر أو كبر مركز القوة هذا. لينتهي النظام إلى اثنين فقط من هؤلاء لا يزالان حول سرير وفاة الرئيس عبد الناصر. هما السادات وحسين الشافعي. في قصة دراما سياسية إغريقية لا مجال للخوض في تفاصيلها هنا.
حاول الرئيس السادات أن يتخلص من هذا العيب بأن بدأ حياته السياسية حاكما بحرب على مراكز القوى. يبدو على السطح أنها اكتملت. لكنها في الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا. بل اتخذت أشكالا عدة، لم يشفع له فيها أنه “بطل الحرب السلام”. فقد تحدى سعد الدين الشاذلي بطولة الحرب، وتحدت امتداداته بطولة السلام. وفي الطريق تحدت امتدادات مراكز القوى كل توجه سياسي حاول اتخاذه. وعبثا حاول بكل دهائه السياسي المشهود أن يستخدم القوى ضد بعضها. وانتهت الدراما باغتياله في يوم انتصاره. وخرج الشاذلي معلنا أنه زعيم للمعارضة، فكأنما ينسب لنفسه المسؤولية السياسية عما جرى. ويمنح نفسه بالتالي الحق السياسي بأن يدعو الرئيس الجديد محمد حسني مبارك إلى ”التعاون“
كان هذا انقساما علنيا للعائلة العسكرية الحاكمة، يبدو أن الرئيس مبارك عزم على ألا يتكرر، وصاغ له حلا بطريقته.
كان الحل توافقيا وسلميا إلى درجة الترهل. تقتضي شروطه إبعاد الشاذلي (الناشط العسكري) عن المشهد، كعربون تفاهم عليه الجميع للتوافق، وتفهموا ضرورته. وامتدت حياة مبارك السياسية بهذا الحل. لكنه أيضا وصل إلى نقطة صدام حين رأت العائلة أنه يريد أن يحتفظ بالملك في نسله. وأن القوة السياسية تنفد من بين أصابعها.
وبقدر ما تمكن الرئيس مبارك من تمييع الصراع، بقدر ما قرر منافسوه تمييع الدراما النهائية. فكان الاغتيال معنويا فقط.
ولا شك أن رجلا بالمسؤوليات التي تحملها اللواء عبد الفتاح السيسي أثناء حكم الرئيس مبارك رأى كل هذا وعرفه وخبره. ولا شك أنه أيضا صاغ له في عقله حلا.
الحل السيساوي للمعضلة الداخلية
الرئيس جمال عبد الناصر ابن فترة مسيسة بطبيعتها، والرئيس السادات كان رئيسا لمجلس الأمة، والرئيس حسني مبارك كان نائبا للرئيس. كل هذا منحهم، على اختلاف الدرجة، خبرات متفاوتة في إدارة السياسة.
الرئيس السيسي خرج من الحياة العسكرية إلى الوزارة، ومتى، في فترة اضطرابات سياسية ميزتها قوة السوشال ميديا، قوة التواصل المباشر مع الجماهير.
ربما كان هذا أول ما أثر على رؤيته السياسية للحل. ربما ظن أن السوشال ميديا والتواصل المباشر مع الجماهير هي مفتاحه المضمون إلى القيادة. وإلى عدم تكرار أخطاء الحكم ”العائلي“، والقدرة على هزيمة صراعاته.
تميزت نفس الفترة بتسيد الإخوان والنشطاء للمشهد السياسي. ربما قاده هذا إلى الاعتقاد أن هاتين القوتين هما محرك الأحداث فعلا. وأنه يستطيع أن يقنع إحداهما ويواجه الأخرى. لقد خاطب الشعب مباشرة من قبل فخرجت الناس بالملايين.
هذه التأثيرات، في فترة ممارسته السياسة، إلى جانب ما أشرت إليه سابقا في فترة حياته العسكرية، جعلته يركز في نظرته السياسية على دائرة ”العائلة الحاكمة“. ولكن….
ولكن دون أن يفلسف النظام السياسي المصري في صيغة أكثر شمولا. أن يدرك الامتدادات الأوسع لمعنى لفظة ”العائلية“ في النظام السياسي المصري. أنها ليست عائلية عصبة الحكم فقط، بل تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير.
امتداداتها عبرت عن نفسها في الاتحاد الاشتراكي، وفي الحزب الوطني. وكلاهما عبارة عن ممثلي العائلات في اتحاد أصحاب المصالح الذين لا يمانعون في العمل تحت أي شعار، لكنهم يريدون أن يضمنوا المحاصصة (توزيع الحصص) العائلية، أنصبتهم في السلطة. بدءا من السلطة التشريعية وليس انتهاء بها. فهناك الأنصبة في أجهزة الأمن الداخلي والقضاء والإعلام. وهناك حتى أنصبة لعائلات الاعتراض كعائلة الإخوة والأخوات في الله.
لكي تتغلب على عائلة يجب أن تضمن أنصبة كافية لعائلات أخرى. والموضوع متشابك ومتداخل بدرجة معقدة، وليس رسما على خريطة حدودها السياسية واضحة.
لكن هذه مشكلة بسيطة. فالرئيس السيسي يحاول أن يتخطى هذا من أساسه. وأعقد ما في الموضوع أن إحساس هذه العائلات بالاستبعاد يعبر عن نفسه برسائل سياسية. حدث هذا في انتخابات رئاسة الجمهورية التي مدت ليوم ثالث (ملحوظة: هذا تصحيح لنسخة سابقة من المقال أشير فيها إلى أن المد حدث في الاستفتاء على الدستور). لأن آلة العائلات حجبت ناخبيها. ثم حدث مؤخرا في موضوع تيران وصنافير، الذي لم تكن ردود الفعل عليه تعبيرا عن المشكلة الظاهرة من خلاف حول الوثائق، وإن وجدت، بقدر ما كانت في مشكلة باطنة هي ”أنصبة السلطة“. رسائل تحجب عنه التأييد حتى لو اقتنعت بصحة موقفه، لأنها ترى أنه تجاوزها، وهو فعل هذا. تقول له ”نحن هنا“. وتلعب شد الحبل.
وهذه الأنصبة على ما فيها من مثالب في النظام العام لإدارة البلد، على ما فيها أيضا من خبرات في إدارة البلد، في كافة جوانبها. أثر غيابها على إدارة الملفات الداخلية كالاقتصاد مثلا. وأثر على تناسق عمل السلطات. لأنها لا تنظر إلى مايسترو.
صارت الأنصبة في المؤسسات الأخرى ترى أن هناك مؤسسة واحدة تحظى بالثقة على حساب الأخريات، وتتحين الفرصة لكي يبعثها السيسي مع أخواتها تمرح وتلعب، لكي يأكلها ذئب ما. ربما أغوتني بلاغة التشبيه باستخدام صورة متطرفة، لكن الفكرة العامة صحيحة. في مجتمعات تدار سياسيا بالطريقة المصرية ليس هناك مجال لانفراد مؤسسة بكل شيء، ولا سيما أنها محدودة الخبرة في الحياة المدنية، وأن عيونها تركز على الخبرة التي اكتسبتها خلال السنوات الخمس الماضية في علاقتها بالنشطاء والأخوان.
وأنا هنا لا أمدح هذا النظام، كما سأبين سريعا، إنما أقدم قراءة له. علها تفتح أعينا لا تراه، أو تفتح عيني على ما لا أراه. وهكذا بالنسبة للجميع.
هنا يأتي دور النصف الثاني من الإجابة. النصف الصعب. كيف نتصرف في هذا
الخلل في النظام السياسي المصري
هذا عنوان يحتاج إلى مجلدات. لكنني في مساحة هذا المقال سأحاول أن أبسط رؤيتي بقدر الإمكان.
فكرة العائلية السياسية، كالدين السياسي، تجاوزها الزمن، لكنها باقية بإرادة مؤمنين بها. يشعرون بالراحة في ظلها، ويرهقون من حولهم.
النظام السياسي المصري يحتاج إلى أن يستبدل بالأنماط القديمة هذه أنماطا جديدة في التعبير السياسي. أنماطا تنتمي إلى حياة ”السيتي“ وليس إلى حياة القرية. وحتى لا تتوه المعاني، أقصد أنماطا تحول المعادلات الحسابية إلى معادلات جبرية، تحول المصالح إلى أفكار سياسية. وتوجهات حزبية. بشروط صارمة للتعبير السلمي واحترام أولوية الأمن والاستقرار والمساواة بين المواطنين.
نحتاج إلى تفهم دور الثروة في صياغة السلطة السياسية. والدافع الذي تخلقه في المنافسة. رغم عيوبها الأولية المعتادة في مرحلة الانتقال. فنرفع يد المؤسسة المركزية عن الاقتصاد. ونوحي للناس مصريين وأجانب بالثقة، فيتشجعوا على الاستثمار. ونترك المصالح تتنافس، لكي تحتاج إلى صياغة نفسها في صورة كيانات سياسية.
المحير هنا، أننا حين نتطلع إلى إجابة السيسي نراه لم يتخلص من فكرة العائلية على طريقة الحزب الوطني أو الاتحاد الاشتراكي لكي يأتي بنظام أفضل. بل إننا انتهينا حتى الآن إلى ائتلاف بارد غير مفهوم، وبلا كاريزما، اسمه ائتلاف دعم مصر. لا نعرف أشخاصه، ولا نعرف حدوده ومعالمه. وهو متكون بنفس الطريقة التي صارت الأمور تدار بها داخليا. امتدادات أهل الثقة. أي أنه يحاول التخلص من النمط القديم، ثم يحل محله نمطا قديما آخر. لم نكسب شيئا، سوى خسران الخبرات القليلة اللي حيلتنا.
الرئيس السيسي يحتاج إلى اكتساب الخبرة بمعدل أسرع من المعتاد، لتعويض الفارق بين الحياة العسكرية وسياسة المجتمعات. يحتاج إلى ترجمة السلوكات إلى معادلاتها السياسية. هذا أدعى لكي لا يضيع نجاحاته وشجاعته في عدد من الملفات، كملف العلاقات الإقليمية، ومكافحة الإرهاب. وبعض النوايا الاقتصادية في تشجيع الاستثمار الخاص التي لا نرى لها دليلا سياسيا.
باختصار. الرئيس السيسي ناجح في التعامل مع الخارج. لكن خبرته في التعامل مع “العائلة الواسعة” داخل مصر تحتاج كثيرا من التحسن، وصياغة صيغته الخاصة ولكن غير المدمرة، معها.
النيات لا تكفي وحدها في السياسة.
تعليق صغير بس… إنه تم مد التصويت في الإنتخابات الرئاسية ليوم تالت، انما الاستفتاء على الدستور كان كثيف جدا لدرجة ان اصحابي الثورجية في اليوم ده كانوا مقهورين وكانوا بيشتموا الجيل الكبير
تم التصحيح.. شكرا للفت نظري