تيران وصنافير – الرواية المتسقة
تعلمت من الصحافة البريطانية والأمريكية أن الموضوع الصحفي اسمه قصة. لماذا؟ هل لأن فيه حكاية؟ بل لأن فيه سردا متصلا، وسياقا متسقا. رواية يمكنك تصديقها، ويمكنها استيعاب الثغرات التي قد تطرأ عليها هنا أو هناك. فتقدم لتلك الثغرات احتمالا منطقيا يتماشى مع الرواية.
في مقابل هذا العقل الروائي المنظم، يأتي العقل المشتت، المشتت، بفتح التاء في الأولى، وكسر التاء في الثانية. عقل يفتح أبواب شبهات، لكنه يقدم سردا مكسورا.
وبالتالي انشغلت في موضوع تيران وصنافير بالنظر إلى كل ما طرح، وبدأت في الموضوع الأول بالنظر إلى أدلة المعارضين، كما أوجزتها جريدة البداية، وكتبت في ذلك . أثنيتها بالنظر في الإطار الحججي الأخلاقي الذي يقدمه كل طرف، واختبرته في جميع الأطراف، والآن أختم بحصيلة ما استقر عليه عقلي من رواية مقنعة بالنسبة لي، وتتوافر فيها شروط القصة الصحفية. وما دمت قلت إنها قصة وصحفية، فمعناها أنها لا تبحث في ما كان يجب، بل في ما حدث بالفعل، واستقامت روايته. ليست وظيفته إعادة كتابة التاريخ، وتحديد الملكيات، بل وظيفته رواية ما دار بين الأطراف بخصوصها.
البداية:
في عام ١٩٤٩ تقدم ضابط البحرية إبراهيم محمود باقتراح يساهم في تأمين الممر الملاحي في خليج العقبة، بعد أن سيطرت القوات الإسرائيلية على بلدة أم الرشراش إثر انسحاب القوات الأردنية منها. مضمون الاقتراح أن تطلب مصر من الحكومة السعودية تمكينها من السيطرة على جزيرتي تيران وصنافير السعوديتين اللتين يمكن من خلالهما التحكم في مضيق تيران، وبالتالي التحكم في خليج العقبة الذي يقع المضيق عند مدخله.
كان اقتراحه الآخر إن تعذر نقل السيادة على الجزيرتين أن يُستأجرا نظير المال، حيث كان هذا قانونا معمولا به وقت الحرب العالمية.
حسب رواية اللواء إبراهيم محمود في لقاء تليفزيوني موجود على يوتيوب، فقد ارسل الملك فاروق زوج أخته وزير الحربية، اللواء إسماعيل شيرين، مبعوثا خاصا إلى الملك عبد العزيز، ليعرض عليه الأمر، ووافق الملك على الفور.
أرسلت مصر بدورها دوريتين إلى الجزيرتين اللتين لم تكونا مأهولتين من قبل، إلا بالثعابين والسحالي والعقارب.
وعقب السيطرة عليهما راسلت حكومتي بريطانيا والولايات المتحدة تخبرهما بما حدث. هذه نسخة من البرقية ضمن سجلات وزارة الخارجية الإسرائيلية، وهي بتاريخ ٢٨ يناير ١٩٥٠. ترجمت النقطة الأولى التي تشير إلى ما حدث، وإلى التنسيق مع السعودية، قبل احتلال الجزر. مصر، في نفس التوقيت، أرسلت دورية إلى طابا، لكنها لم تحتج إلى التنسيق مع السعودية.
وهذا هو الاتفاق الذي أشار إليه مندوب مصر في مجلس الأمن، في يونيو ١٩٥٤، ردا على شكوى إسرائيل من أن مصر تعترض السفن المارة في خليج العقبة. حيث أشار إلى علاقة مصر بالجزر تحت حكم الخلافة العثمانية ثم إلى الاتفاق الذي توصلت إليه مع حكومة المملكة السعودية فقال ما نصه: ”توصلت مصر والمملكة السعودية إلى اتفاق يؤكد ما قد أسميه، ليس ضما للجزر، ولكن احتلالا لها، ولكن الأهم الإقرار أنها تمثل جزءا من الأراضي المصرية“.
ورغم أن خطاب المندوب المصري يأتي تحت بند التأكيدات الخطابية في معرض رده على شكاوى إسرائيل من اعتراض مصر للسفن المارة في خليج العقبة باتجاه إيلات، وليس من باب المراسلات المخصصة لشرح وضع الجزيرتين، فإنه التزم بما كان معمولا به، دون التقصير في إبراز غرضه، أن تتعامل مصر مع الجزيرتين في ظل المواجهة مع إسرائيل كأرض مصرية. لم تضم مصر الجزيرتين إليها، ولكنها، بالاتفاق مع السعودية، ترفع عليهما العلم وتنشر فيهما الجنود، لكي يكون لها وضع قانوني لمراقبة مدخل خليج العقبة.
مع الاعتراف في الأوساط السياسية، بالنسبة لهذا الجيل الذي عاصر موضوع استعارة الجزيرتين من السعودية، أنهما سعوديتان. فنجد أن الصحفي محمد حسنين هيكل، مؤرخ حكم عبد الناصر، يتحدث عن الموضوع بأريحية في كتابه ملفات حرب السويس، بينما يشير إلى حقيقة أن السعودية – لا مصر – هي التي تولت التفاوض مع الأمريكان على جلاء القوات الإسرائيلية عن الجزيرتين عقب احتلالهما الأول سنة ١٩٥٦. ويبرر ذلك أولا بأن الجزيرتين سعوديتان، ويستخدم لفظ ”معارة“ إلى مصر.
المراسلات نفسها موجودة في ملاحق كتاب هيكل، ويمكن بسهولة الاطلاع عليها.
وقد أثمرت جهود الملك سعود عن جلاء القوات الإسرائيلية بالفعل عن الجزيرتين عام ١٩٥٧، وحلت محلها قوات حفظ سلام دولية، لكي تضمن أن يظل المرور في خليج العقبة محكوما بالقوانين الدولية.
السعودية تتفاوض مجددا بعد حرب ٦٧
استمر الحال في خليج العقبة على نفس المنوال، حتى قررت مصر إغلاق مضيق تيران أمام السفن الإسرائيلي في ٢٣ مايو ١٩٦٧، فطلبت من قوات حفظ السلام الدولية مغادرة الجزيرتين، وأحلت قوات مصرية مكانهما. واندلعت حرب يونيو ١٩٦٧، التي انتهت بهزيمة سريعة للجيوش العربية المشاركة فيها. وعلى رأسها الجيشان المصري والسوري، فاحتلت سيناء وهضبة الجولان ومدينة القدس والضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة.
لم تسيطر القوات المصرية على المضيق، والجزيرتين، سوى ٢١ يوما، حيث انسحبت من سيناء في اليوم التالي لاندلاع الحرب. وفي نهاية يوليو من نفس العام احتلت إسرائيل الجزيرتين مرة ثانية. واستمر هذا الاحتلال حتى عام ١٩٨٢. حيث انسحبت إسرائيل منهما بموجب معاهدة السلام، على أن يكونا ضمن المنطقة ج. أي تحت إشراف القوات الدولية مع قوات من ”الشرطة“ المصرية.
ومرة أخرى، تتولى السعودية التفاوض من أجل جلاء القوات الإسرائيلية. لكن إسرائيل ترفض هذا تماما خوفا من تكرار ما حدث في المرة السابقة، حين استجابت للتفاهمات السعودية الأمريكية ووافقت على إحلال قوات حفظ سلام. المراسلات الخاصة بالتفاوض السعودي موجودة في الأرشيف الوطني الأمريكي. وهذه عينة منها، تمهد لانتقال سلس إلى النقطة التالية
في ظل السلام المصري الإسرائيلي
المخاوف الإسرائيلية من إعادة الجزيرتين إلى السعودية استمرت أثناء عملية السلام. فالسعودية ليست على علاقة مع إسرائيل. وتخشى إسرائيل بالتالي من أن أي اتفاق مع الحكومة المصرية لن يكون ملزما للسعودية حال إعادة الجزيرتين السعوديتين إليها. أثير هذا الموضوع مع الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي أكد لهم أن مصر ستضمن الالتزام بما اتفق عليه، قبل أي خطوة مستقبلية بشأن الجزيرتين.
بعد شهرين فقط من تولي الرئيس محمد حسني مبارك جاء وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون ، في ١٨ يناير ١٩٨٢، في زيارة إلى القاهرة انصبت على قلق إسرائيل من مجموعة من الملفات، كان أحدها هو تيران وصنافير
يخشى الإسرائيليون أن السعوديين سيسعون الآن لاستعادة الجزيرتين، ويصرون (أي الاسرائيليين) على أن يتولى أمن الجزيترين قوات حفظ السلام المنتشرة في سيناء لضمان ألا يحدث هذا.
هذا صورة أصلية من الخبر كما نشر على وكالة الأنباء اليهودية في حينه
مرة أخرى أعادت مصر تأكيداتها على ضمان الالتزام بما ورد بخصوص تيران وصنافير في معاهدة السلام. سأقطع التسلسل الزمني هنا لأقول إن هذا هو السبب في الأخبار التي انتشرت، وربما لم يفهمها بعضنا، بأن مصر أرسلت تعهدا مكتوبا لإسرائيل قبل توقيع اتفاق ترسيم الحدود مع السعودية، تعيد فيه التأكيد على نفس المعنى.
نعود الآن لاستكمال القصة.
بمجرد انتهاء المقاطعة العربية لمصر، وعودة العلاقات مع السعودية، فتحت السعودية ملف تيران وصنافير مرة أخرى، على اعتبار أن سبب الإعارة – المواجهة مع إسرائيل – قد انتفى. وحصلت مراسلات بين وزارتي الخارجية المصرية والسعودية، أكدت فيها مصر بما لا يدع مجالا للشك، وبمراسلات رسمية، التزامها بالاعتراف بملكية السعودية للجزيرتين وأنهما كانتا معارتين إلى مصر. هذه صورة من المراسلة والتأكيد المصري.
في العام التالي، ١٩٩٠، أودعت مصر لدى الأمم المتحدة ما يعرف بنقاط الأساس. ولم تشمل تلك النقاط جزيرتي تيران وصنافير. تستطيع أن تطلع على نقاط الأساس، كما هي مودعة في الأمم المتحدة، في الرابط التالي. طبقا لهذه الوثيقة لم تدع مصر ملكية تيران وصنافير.
في يناير من عام ٢٠١٠، أصدر الملك عبد الله مرسوما ملكيا يضمن الجزيرتين ضمن الحدود السعودية. وخاطب السعودية الأمم المتحدة التي راسلت مصر بهذا الشأن. وردت مصر بالتعهد بالاعتراف بما ورد في هذا المرسوم، وبما لا يؤثر على الوضع النهائي الذي يحفظ حقوقها. تقصد بذلك التحديد النهائي لاتفاقية ترسيم الحدود. هذه صورة من الرد المصري.
على الفور بدأت ١١ لجنة مصرية سعودية مشتركة العمل على التوصل لاتفاق نهائي بشأن ترسيم الحدود، استمر عملها طوال ست سنوات، رغم كل الاضطرابات السياسية التي شهدتها المنطقة. حتى توصلت إلى اتفاق نهائي بهذا الشأن هو المعروف باتفاق ترسيم الحدود، بينما يتداوله الناس باسم اتفاقية تيران وصنافير. والحقيقة أن وضع جزيرتي تيران وصنافير كان محسوما من قبل، لكنها أبقيت حتى يتم التوصل لاتفاق نهائي يشمل كل الحدود البحرية.
أخيرا
كما يبدو واضحا من هذه الرواية، هذه ليست عريضة تفاوضية لإثبات ملكية الجزيرتين، فليس دور الصحفيين رسم الحدود، هذا دور خبراء في مجالهم. إنما هذه رواية سياسية لما يخص الجزيرتين من واقع المراسلات. رواية متسقة وليست محاولة للبحث عن ثغرة هنا أو هناك، ولا محاولة لإلصاق شعارات بفعل سياسي عادي متكرر بين الدول. رواية سياسية، تدور في فلك السياسة، وليس في فلك الاستهانة بالسياسة وتحقير أهميتها وتحويلها إلى ملاسنة ومعايرة.
أهلا وسهلا برأيك