مقالات هتعجبك

بهجة احتكار الجو العام – القرآن لخدمة أغراض أخرى

مكبرات الصوت في المساجد هل فعلا غرضها بهجة الاستماع إلى القرآن؟ أم أنها جزء من قضية اجتماعية وسياسية أكبر؟ الجدل في مصر يكشف ما يدور في العقول

كل شخص حر. يبتهج بالطريقة التي تريحه، دون أن يضر غيره. إن كنت تبتهجين من تداخل أصوات المساجد في رمضان بسيطة. شغلي التليفزيون، والراديو، وسماعة الكمبيوتر، على ٣ محطات قرآن مختلفين، وعلي الصوت جوه بيتك. محدش هيتدخل لك.

انتبهي، لقد أعطيناك بهذا الخيار ميزة لا تتوفر لنا مع ميكروفونات المساجد. أعطيناك إمكانية اختيار ثلاثة أصوات جميلة. وإمكانية ضبط المحطات لكي تبدأ بنفس الآية، وتنطق نفس الحرف، في نفس الوقت. كما أننا أعطيناك خيار أن تجمعي هذه الأصوات الثلاثة في غرفة واحدة، وعيشي حياتك. لو جالك تليفون تعرفي تردي عليه، ولو عندك ولد بيمتحن، تقدري تخليه يذاكر في أوضة هادية، ولو بعد الشر عندك حد عيان يقدر ينام. كل “الأوبشنز” دي مش عندنا. معاملة خمس نجوم والله.

Screen Shot 2017-05-30 at 10.09.40.png

هل بهجة هؤلاء هي القرآن؟ فعلا؟!

لكنني لا أفهم ما هي البهجة في تداخل الأصوات بهذا الشكل. ولا أفهم كيف يستوعب القرآن، وينصت إليه، من تتداخل في أذنه الكلمات والأحرف، حتى لو كان مصليا في مسجد والأصوات تأتي إليه من مسجد آخر. فضلا عن أن يكون مشغولا بالمسلسلات وهذه مجرد أصوات في الخلفية. يا أخي إحنا لو أربعة قاعدين على قهوة، وتلاتة منهم بيتكلموا في نفس الوقت، هتقول لهم واحد واحد، مش عارف أتابع.

لذلك أظن أن البهجة هنا هي بهجة احتكار الجو العام. وهي بهجة عزيزة على قلوبنا في مصر لكننا لا ندري. لو عامل فرح  ما تتكيفش إلا لو سديت الشارع، وأسمعت القاصي والداني طلقات النار. مع إن “الفرحة في القلب”. ولو عندك محل بقالة بتسد الرصيف بكراتينك. “أصل المكان ضيق”. طيب ادفع تمن مكان واسع وخده. هو ينفع أتأجر شقة أوضتين وأحط الصالة بتاعتي في الممر بتاع العمارة يعني؟

الاحتكار دا هو مشكلتنا الرئيسية في كل حاجة تاني، في الاقتصاد، في السياسة، في العلاقات الاجتماعية. لكن الغريبة إن ناس بتدعي إنها “تعد بدولة أفضل، ومنفتحة” بتلاقيهم في سلوكهم العام أكتر ناس احتكاريين. فاكرين إنهم لما يحتكروا الآذان، بصوت الميكروفون، ويحتكروا الأخلاق بالتحكم في ما نرتدي وما لا نرتدي، ويحتكروا الأفكار، بالتحكم في ما نقول وما لا نقول، لما يعملوا دا كله وهم بعيد عن السلطة، هيرجعوا – وهم في السلطة – ويقدموا لنا مجتمعا منفتحا. (هو أنا غلس ودمي يلطش، بس برضه اديني فرصة، طلعني ع المسرح، وأنا هموت لك الجمهور من الضحك).

مواصفات السيتي بتتعمل عمولة

مشكلتنا الأخرى المتعلقة بدا هي ترييف السيتي. هتقول لي يا عم دا الريف هادي ومافيهوش صوت. أيوه. لكن فكرة الريف عن “السيتي” أنها صاخبة. العبارة المشهورة المتكررة عن “صخب المدينة” تلخص هذه الفكرة. مع أن السيتي (وهي اللفظ الأصح لكن هذا موضوع آخر أتناوله بالتفصيل في كتاب لي سيصدر قريبا بعنوان انفصام شخصية مصر) ليست صاخبة إلا بالحركة العادية لزحام البشر الذين يعيشون فيها. في ما سوى ذلك تسعى بجدية إلى خفض الأصوات. لو مشيت في شوارع لندن أو باريس ستجد أن الأحياء خالية من أي صوت سوى أصوات مركباتها، تفرض قوانين على استخدام آلات التنبيه، وقوانين على مستوى الصوت المنبعث من أي شقة أو منزل. لا يسري هذا على لندن وباريس فقط، بل هو الحال في دبي وأبوظبي. في دولة عربية زرتها. وهكذا يقول من زاروا الدوحة. السعودية نفسها كما في هذا الخبر لا تسمح بمكبرات الصوت.

Screen Shot 2017-05-30 at 09.41.18.png

ترييف السيتي هو تنفيذ فكرة الريف عن السيتي، في أرض السيتي. وهي نقل الوعي الريفي إلى السيتي. ومن الوعي الريفي أن وضعك الاجتماعي يتناسب مع مقدار استجابة الآخرين لمناسباتك الاجتماعية. في المآتم والأفراح. من علامات “علو الشأن” في الريف أن تكون جنازة الميت كبيرة، أو أن تمتد الأفراح والليالي الملاح لعالي الشأن أكثر من غيره، ويشارك الجميع فيها. وهذا أيضا يُفرض على السيتي فرضا. الإخوة، العائلة الدينية، يريدون أن يثبتوا أنهم “سادة البلد”.

تايجر وسيطر

السيدات والسادة الأفاضل. الموضوع بسيط. لو أحببت الاستماع إلى قرآن التروايح، توقفي عن مشاهدة المسلسلات وعيشي بالصوت عمرو ياسين.pngوالصورة مع صلاة التراويح من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو أي من المساجد الكبرى الأخرى لو شئت. أو انزل إلى المسجد وصل واستمع وأنصت.

الموضوع في الحقيقة أنكم تريدون من القرآن أن يقوم لكم بدور السيطرة بينما تنشغلون عنه بالمسلسلات. أنتم توظفونه لدور اجتماعي ينتقص من غرضه الديني. تريدونه “ساوند تراك” لفيلم حياتنا، باستخدام التعبير السينمائي. هذا ما نقصده حين نقول لكم إن الموضوع هنا ليس دينا. فتحسبوننا نتجنى عليكم. والغريب أن المشاعر تعلو مع الموضوع كلما كانت المدينة أشهر سياحيا. كالأقصر والإسكندرية. لأن الغرض، بالنسبة لكم، أكثر إلحاحا.

Screen Shot 2017-05-30 at 09.53.46.png

عايزين قانون، مش عايزين قانون، فين القانون…

تبقى نقطة أخيرة هامة في سياق هذا المقال. هي استخدام الدين درعا لتثبيت فكرة أن الدين لا القانون هو الملزم، وأن الجرم هو مخالفة الدين لا مخالفة القانون. موضوع آخر لا مجال لتفصيله هنا، لكنه الأصل في أن مصر تعجز عن فعل ما يناسب الحياة الاجتماعية المعاصرة. ومرة أخرى، تناولت هذا الموضوع بالتفصيل في كتابي “انفصام شخصية مصر”. هذا الاقتباس من أحد أئمة المساجد في منطقة سموحة. يلخص هذا.

Screen Shot 2017-05-30 at 09.55.16.png

هذا جوهر فكرة سلبية يروجها الشيوخ في المجتمع المصري، تجعله مجتمعا غير منتظم، يطالب بالقانون لكنه في الحقيقة لا يحترمه، ثم يعود ليشكو من غيابه. دون أن يدري من أين تترسخ فكرة عدم احترامه. وما هو الدرع الذي يستخدم لصده وهدم ما لا يعجبك منك.

About khaledalberry (93 Articles)
إعلامي عمل في بي بي سي ١٢ سنة، راديو وتليفزيون وديجيتال ميديا bbcarabic.com . راسل صحفيا من ١٣ دولة. كان مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي عربي في العراق بعد حرب العراق. . راسل بي بي سي من حيفا وجنوب لبنان في حرب تموز /يوليو ٢٠٠٦ .شارك في تأسيس دوت مصر ورأس تحريرها . أصدر أربعة كتب هي الدنيا أجمل من الجنة، ونيجاتيف ورقصة شرقية (القائمة القصيرة للبوكر العربية) والعهد الجديد. له كتابان قيد النشر هما "الأمية المقدسة" و "انفصام شخصية مصر". . حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة من كلية الطب جامعة القاهرة

أهلا وسهلا برأيك

%d