صلاح الدين الأيوبي .. وترويض الذمي الصالح
١
عيسى العوام، كما يقدمه الفيلم السيتنياتي، رجل مسيحي ربنا كرمه، ودخل في صفوف المقاتلين المسلمين الأجانب، ووثقوا فيه، وهو، في فيلم الناصر صلاح الدين، يحارب تحت لواء القائد الكردي الذي يحكم مصر. سيضحي عيسى بروحه لكي يسيطر مسلمون على الأراضي المسيحية المقدسة.
بعد أن يؤدي العوام خدماته يفترض أن يعود إلى موقعه في صفوف مستوطني بلده مصر. الدرجة الأولى محجوزة للمسلمين الكرد الذين أقاموا الدولة الأيوبية، والدرجة الثانية للمسلمين الأجانب الذين لا يشكلون خطرا كالمماليك والعرب، والدرجة الثالثة للمسلمين المصريين المزارعين، والدرجة الرابعة للمصريين المسيحيين. هذه الحقيقة لن تظهر في الفيلم.
ما المنطق الذي يحرك شخصية عيسى العوام؟
٢
عيسى العوام، بالشكل الذي قدمه يوسف شاهين، مجرد شخصية مخترعة لغرض درامي، ولا وجود لها. وإن كان موجودا فهو مسلم، إذ لم يكن يسمح لذمي أن يلتحق بجيش المسلمين (ولم يكن ذلك مسموحا للمصريين، حتى المسلمين منهم). لا يهمنا البعد التاريخي الخاص بها أبدا. كل ما يعنيني أن هذا ما قدمته السينما بوصفه الذمي الصالح. وهو مفهوم له تعريف بسيط للغاية: المسيحي الذي غرضه أن يعاون المسلمين على نشر “دينهم الحق”، ومد سلطانه.
هنا خطورة فكرة “الذمي الجيد” التي قدمها يوسف شاهين. لكن المحزن أنها ليست بعيدة عن الواقع.
نراها في نواب برلمان مسيحيين يؤيدون تطبيق شريعة تنص على وضعهم في درجة أقل كمواطنين. ونراها في نشطاء مسيحيين يقضون أعمارهم مدافعين عن حق الإسلاميين في ممارسة حرياتهم السياسية، والتي تتمحور كلها حول حريتهم في قمع المسلمين قيراطا وقمع المسيحيين ٢٤. يعتقد هذا الذمي الجيد أنه يقدم أفضل نموذج للنبل السياسي والإنساني. لكننا نعرف أنه ليس من النبل أن تدافع عن حرية شخص في ممارسة مهنة تقييد الناس.
٣
مصر فيها مقرر حريات في جمعية حقوقية، ومسؤول في نقابة الصحفيين، خرج على التليفزيون يحرض على حرق بيوت مصريين بهائيين، لأنهم “كفار”، على شاشة تليفزيون متاحة للعامة. ولم يحاسبه أحد. هذا يوضح لك إلى أي مدى يتبنى مجتمعنا القمع ويقبله في مختلف مستوياته الثقافية. حتى لو وصل هذا القمع إلى درجة تحريق البيوت، ومطاردة أناس مسالمين بسبب عقيدتهم.
من الطبيعي إذن أن ينشأ غير المسلم واعيا بهذه المعادلة. أن أقصى أمانيه أن يترك في حاله، ولا يتعرض لاعتداء. أو كما يقال في الخطاب الديني: يُؤمَّن على نفسه وماله وولده. ولكي يفعل ذلك يجب أن يكون ذميا جيدا في الحد الأدنى. لا يعترض على سبه ولعنه في ميكروفون معلق في نافذته أو قريبا منها.
فما بالك لو أراد هذا الذمي أن يرتقي! ما بالك لو أراد التكريم! ما بالك لو أراد أن يكون في وظيفة مرموقة. يستلزم الأمر أكثر من الصمت، والاختباء. يستلزم إثبات الولاء.
كل الأوساط المهنية والاجتماعية في مصر تقيد فرصة المسيحي في الصعود. لكن هذا ينطبق بشكل أكبر وأكثر وعيا على الوسط الثقافي والإعلامي، كونه الوسط الذي مهنته أن يشهق أفكارنا الاجتماعية ويزفرها.
لذلك صرنا نرى نموذج “الذمي الجيد” متجسدا بين عدد لا بأس بهم في هذا الوسط. إما كبار سن حافظوا على وظائفهم ووجودهم بإثبات أنهم ذميون جيدون طوال مشوارهم، أو شباب صغير يبتغي فقط الرضا الاجتماعي الذي لا يعيقه عن الأشياء البسيطة، عن الترقي العادي.
٤
ثم تطور الأمر مع وعي التسعينيات. نشأ هذا الجيل في ظل هيمنة إسلامية كاملة على الخطاب العام على كل المستويات، حتى في الطبقة الوسطى. صارت العبارات الطائفية التي تطلقها ميكروفونات المحروسة الأمر الواقع. وصار تداول هذه المفاهيم بصيغ مختلفة في الأوساط الثقافية والسياسية مجرد “حرية رأي” يجب أن ندافع عنها. نعت المسيحيين بالكفر، وهو نعت له تبعاته في الشريعة الإسلامية وليس فقط تقريرا لحالة اختلاف عقيدي، صار هو الآخر حرية رأي، وتعبير “طبيعي” عن موقف أهل الأديان من بعضهم. صار شيئا “يمكن التسامح معه”. الذميون الجيدون، المتصالحون مع تفكير الإسلام السياسي، ومع احتمال وصوله إلى الحكم، صاروا مروجين لهذا.
لقد ارتفع سقف المطلوب من الذمي الجيد. عليه الآن أن يصل إلى درجة غير مسبوقة من “النبل” الاضطراري الذي تحدثنا عنه. لقد ضحى العوام بروحه من أجل دولة الإسلام، والتطور الطبيعي يقتضي من الذمي الجديد أن يضحي هو الآخر، مش كتير، بحريته وكرامته فقط. أن يدافع عن الأهداف السياسية لمن سيهدرونهما. أن يساعد الإخوان المسلمين على نشر أفكارهم العنصرية الطائفية المتخلفة.
مع سيطرة أفكار الإسلاميين وشخوصهم على الوسط الثقافي، صار هذا السلوك “النبيل” رابحا. يكسب الذميون الجيدون الجدد أكثر من غيرهم. يُحتفى بهم أكثر مما يستحقون. ويضطلعون بأدوار لا يملكون مؤهلاتها. وينسب إليهم من “الجودة” ما لا يستحقونه.
لقد نصب الإسلاميون، ولا سيما بعد الهيمنة الإعلامية القطرية، أنفسهم مصفاة للوسط الثقافي. بعد التحديق والعصر والتدقيق، لم يعد يمر من تحت أيديهم من المسيحيين إلا شرار العقول، الشتامون لمن يتصدى للإسلاميين، الخاضعون الراضعون الخانعون لظلم الإسلاميين وظلم أفكارهم. التطور الطبيعي للذميين الجيدين بمعايير حقبة التسعينيات. ستجدون أسماء بعض منهم منقوشة بحروف الثناء في روايات أدباء شباب، تسللوا من صفوف الإسلاميين إلى الهيمنة على الحركة الثقافية في مصر. ولا عزاء للأدب، ولا لقلة الأدب. يوما ما ستكون هذه مسبة مدونة في كتاب. عيسى العوام مجرد شخصية خيالية مخترعة في زمن مضلل.
أهلا وسهلا برأيك