٣ حقائق لن تغيرها إقالة رئيس جامعة الأزهر
أعفي رئيس جامعة الأزهر من منصبه بعد أن كفر باحثا متميزا شجاعا، يضطلع بجهد شخصي بمهمة تحتاج مؤسسات، بمهمة كان ينبغي على الجامعة الإسلامية التي أنشأتها الدولة الفاطمية أن تقوم بها عبر قرون طويلة، لكنها لم تفعل.
قرار الإقالة قوبل بردود فعل مختلفة، ما بين محتف بقرار الإقالة ومستخف به. لكن بين ذوي التفسيرات والتأويلات المختلفة للقرار تبقى ثلاث حقائق ليس بوسع أحدنا أن يتحداها. وهذه الحقائق جديرة بالنظر، إن كنا جادين في عزمنا التعامل مع أهم مشكلة على الإطلاق، مشكلة الإرهاب الإسلامي، المشكلة التي تضرب نمونا داخليا، وتعيقنا فكريا واقتصاديا، وترسم صورتنا الذهنية في العالم كله.
الحقيقة الأولى: المُقال كان رئيسا لجامعة الأزهر
هذا يعني أنه ليس طالبا متحمسا في بداية حياته، إنما رجل تدرج في المناصب التعليمية في تلك الجامعة الرسمية حتى وصل إلى قيادتها. وهذا يعني أنه درس أجيالا وأجيالا. درسهم نفس الفكر التكفيري أو أشد قليلا، لأن الناس تقول في القاعات المنزوية أكثر مما تقول أمام الميكروفونات والكاميرات.
وصوله إلى القيادة يعني أيضا أنه يمثل قواما شخصيا وفكريا متوافقا عليه في مؤسسته. لا يتفق معه الجميع. لكنه على الأقل يمثل الاتجاه الأقوى.
الحقيقة الثانية: لقد قرأ بصوت عال
سميت هذه حقيقة لأنني أستطيع أن أثبتها بالحواس. تعالوا نفتح الكتب التي تدرس في الأزهر، ونقرأ بصوت عال. لن تختلف شيئا عن ما قاله رئيس الجامعة.
للمرة الألف. وعطفا على خطاب شيخ الأزهر في حضور البابا فرانسيس. في كل الأديان نصوص تحض على قتال الآخرين، وتكفر، وتطرد من الملة. لكن الفارق البسيط أن الدينين الإبراهيميين الآخرين توقفا عن تدريس هذا على أنه أحكام عصرنا، صارا يدرسانه في ظل سياقه التاريخي. في ظل علاقات المجتمعات الإنسانية كما كان متعارفا عليها وقتها. والأهم من ذلك أن فكرة طرح تأويلات وآراء مختلفة فيهما صارت مكفولة ولم تعد محل جدال.
جملة “ليست نصوص الإسلام وحده، الأديان الأخرى أيضا” – على نظام لاتعايرني ولا أعايرك – صارت مضحكة. العالم كله يعرف هذا. العالم لا يتحدث عن النصوص. العالم يتحدث عن “تفعيل النصوص”. هذا هو الفارق بين مجتمعات الإسلام والمجتمعات الأخرى.
ونحن هنا نتوسع ونبالغ في التوسع، فنحول أشخاصا عاديين وكلامهم إلى كلام مقدس. نفعل هذا مع البخاري، ومع الأئمة الأربعة، ومع الصحابة، ومع تابعين. هل هناك دين آخر على وجه الأرض يفعل هذا. هل هناك دين آخر يقدس نصا كتب من ذاكرة شفهية بشرية، وكلام منقول من فم إلى أذن، عبر أكثر من ٢٠٠ سنة.
دعونا نأخذ خطوة إلى الوراء وننظر إلى أفعالنا. سنرى كم هي مضحكة لو رأينا غيرنا يفعلها. مرة ثانية، هناك كتب منقولة من ذاكرة شفهية في الأديان الأخرى. لكنها جميعا عرضة للانتقاد. النبي محمد نفسه بدأ بانتقاد سلوك حملة الرسالة التي جاء ليكملها بأنهم يحرفون “الكلم عن مواضعه”. أتدرون ما هذا؟ هذا هو الذاكرة الشفهية.
الحقيقة الثالثة: نحن نمول الأزهر من جيوبنا
يجب أن نتذكر هذه الحقيقة في المرة القادمة التي نقول فيها للعالم “إن الإرهابيين فئة قليلة”. لأن هذه حجة سخيفة. طبيعي أن يكون “الإرهابيون” فئة قليلة، وإلا لاستطاع العالم أن يحل المشكلة بسهولة. في اللحظة التي يصل فيها إرهابيون إلى الحكم لن يعاني العالم كثيرا، لأنه سيرى أمامه كيانا يعرف كيف يتعامل معه. ولو تجرأ هذا الكيان وساق الهبل على الشيطنة فقنبلة نووية واحدة ستحسم الصراع، كما فعلت في هيروشيما وناجازاكي.
مشكلة العالم معنا أن الإرهابيين حاملي السلاح فئة قليلة، لكن البيئة الحاضنة فئة كبيرة جدا. البيئة الحاضنة تملك أهم مؤسسة إعلامية عربية، يبث منها القرضاوي فتاواه الانتحارية، ويعوض بها الحفيد السابع عشر للشيخ محمد بن عبد الوهاب نقص القدرات البشرية لدولته، بجيش من الإعلاميين مروجي أفكار الإرهاب.
والبيئة الحاضنة ممولة من أثرى أثرياء المسلمين. لا يوجهون أموالهم إلى جماعات ترفع شعار الإرهاب. لكنهم يوجهونها إلى جمعيات “خيرية” كلنا، والعالم قبلنا، يعرف أين تصب أموالها في المحطة الأخيرة. والبيئة الحاضنة تشمل شيوخا رسميين لا يروجون لحمل السلاح، لكنهم يروجون لكراهية الآخرين، ويؤكدون “للمسلمين العاديين المسالمين” أن ذلك دين. هؤلاء يجهزون الجيل التالي، هؤلاء الدعم البشري واللوجستي للإرهابيين. والبيئة الحاضنة تشمل نشطاء ينسبون أنفسهم إلى “الإسلام الوسطي”، ويتحدثون بلغة حديثة. لكنهم يمررون رسالة خبيئة تحرض على العالم، تحت شعارات إرهابية متخفية بألفاظ وطنية، لا تختلف ذرة عن شعارات هتلر، ولا ذرة واحدة، ولا نصفها ولا ربعها.
ثم البيئة الحاضنة تشمل مؤسسات رسمية. حناجر تحت عمامتها تتكفل للإرهاب بمهمة إخراس منتقديه الفعالين. فعلت ذلك مع علي عبد الرازق، ومع طه حسين، ومع فرج فودة، والآن تفعله مع باحث مجتهد نتمنى له السلامة. وألا يذكر اسمه مصحوبا بخبر سيئ، كما عودنا الإرهاب وشيوخه. وهي في ذلك مصرة، وهي في ذلك رأس الحربة في رفض النظر في أي حكم ولو ضئيل، عنيدة إلى آخر الحدود ضد التجديد. وهي قادرة بسبب ما تملك من موارد مالية رسمية وأهلية و خارجية على أن تتحدى بعندها ذاك أي اتجاه إلى تحديث المجتمع.
الموضوع أكبر من تصريح فإقالة.
أيادينا ليست بريئة من الإرهاب. والإرهاب ليس فئة قليلة. بل منتشر ومتوغل على كل المستويات.
أهلا وسهلا برأيك